عن لغة الكتابة.. اللغة الأدبية تجعل المعرفة احتفالاً
من الحراك الذي تفترضه، وتقتضيه، نجد الكتابة موّارة وغير مستقرة، ومن طريقين يفضيان بالضرورة إلى مفترق واحد، فردي مرتبط بالحالة المنتجة (المبدعة) وجمعي ثقافي، مؤسساتي، غير منقص، وقائم على توافقات متواشجة، على ألا نهمل موضوعة تداخل الفردي والجمعي، ومدى الاستفادة والتعاطي، والمثاقفة والاحتلالات التي يحققها كل طرف على حساب الآخر حديثنا هذا يتم في تشكيلة لا متمايزة، ولا تشكل نسقاً خاصاً بها مع إقرارنا بوجود اختلافات هينة، وأحياناً هوات فسيحة لا يمكن تجاوزها، أو جسرها، وهنا لا بد أن نأخذ بما هو متجدد، خلاق، متجاوز، يصنع آليته وأدواته، وبالتالي خلق حالة مفترضة، مختلفة ومغايرة والتعامل مع الكتابة من المداخل بوعائيتها للمعرفة واحتوائها لها، لا استلابها، وجرها إلى مستنقع التقليدية، و المستهلك، مما يشكل عائقاً كبيراً في ذهنية تلقي الكتابة والاحتفاء بها، ضمن صورتها البهية، وضمن وظيفتها،
هذه الطريقة في فك الخلاف والعلاقة الجوهرية بين الإنتاج والقلق، طريقة ذكية منتبهة لذاتها أي جانبها الفردي، ولمحيطها المشكّل لها، أو المكتوب بعض مفرداتها، أقصد الشق الموضوعي، وربما هذا ما حدا بـ «رولان بارت» إلى القول بما معناه إن الكتابة الأدبية تجعل المعرفة احتفالاً، وقد ذكر بارت (الكتابة الأدبية) تلك التي تحددت وظيفتها، والمساحة التي تعمل بها (الأدبية) أي التعامل وفق فضفاض (فوضوي) مسموح به، وهو غير مؤذٍ، فني، لمّاح، لا يؤطر كفهم ومنطق إلا بالقدر الذي تبيحه الفنية، المخلّص من العبثية، والعشوائية غير المؤسسة على فهم (الأدبية) اللفظة التي أضيفت لكتابة كجملة مباعة لرولان بارت، وربما نجد نزوعاًَ متشابهاً في تجربتين مهمتين نقدياًن وفكرياً، أرادتا تخليص الأدبية من أسرها، الأولى متمثلة في جاك دريدا بانتقاده الفكر الغربي، إذا يرى دريدا في هذا الفكر ما يجعله مقيداً، وبالتالي قاصراً في تتبع الحقيقي أو المغاير، والمشاكس وهذا التقييد بحسب دريدا، نابعٌ من تمركز الفكر حول المنطق أما التجربة الثانية عربية، وربما نجد أدونيس أكثر وضوحاً وجرأة في أخذه على الفكر العربي بأنه متمركز حول الوحي ويمكن أن نستشف إدانة دريدا التمركز حول الصوت وهذا ربما ما نجده في (صور ما قبل لغوية) باعتبارها حركات أو جزء من عمليات الفكر كما جاء في كتاب (الصورة ـ الزمن) لـ«جيل دولوز»، كتابه عن الفن السابع، أما أدونيس يدين الشفاهية، أو لنقل الصور ما قبل الكتابة، الصورة المتخيلة غير المحولة إلى منطوق. لكن الإثنان يشتركان بالدعوة إلى اللامركزية والتعدد، وعلم الكتابة، وهذا قد يكون جزء من المشروع الحداثي والمختلف اللذين اتخذاه، مع اختلاف ثقافة الاثنين، والمكان، والمصادر المستقاة في تتبعهما، وحتى استخدامهما للمصطلحات، وحتى في طريقة عرض المصطلح وإعادة إنتاجه بحسب الرواية، والهاجس، نرى أن دريدا يستخدم في طروحاته مصطلح التخريب، كمصطلح صادم، بينما يسمي أدونيس ذلك الخلخلة والتفجير، ويمكن التقاط إشارات من هذا الكلام أن جميع الأجناس الأدبية، ومنها الشعر والقصة، والرواية، بالإضافة إلى الفن التشكيلي، والسينما، تستفيد كثيراً من اللغة، بوصفها الأداة التواصلية، والتي يرى فيها غادامير «لدور التكويني المشكل للواقع، وباعتبار اللغة متعالية على ذاتها، وينبثق عنها شيء ما».
هابرماز يؤيد غادامير في ذلك «إن الأمر لا يقتصر على تمثل المعايير الاجتماعية، والقيم بل يتعداه إلى إعادة تأويلها» بمعنى أن هناك وظيفة أخرى للغة في الكتابة، غير اللسانية، والمنطوقية، و الكلام غير المنتظم في هيكلة محددة وذات معنى يقبل التأويل وإعادة الصياغة، وفق مواضيع يراها المنتج ذات أهمية، أما «جوليا كرستيفا» في خلافها مع البنيوية تريد دخول النص كعلاقات مستترة، مخبوءة مواربة، ومحرضة شهية، هي تريد مسك كثافة النص، أي الأرواح، والأشباح المشكلة له، تفعل ذلك دون أن تعير كثيراً أهمية لوظائفه. وهنا توافقت مع «سوسير» الذي يرى في اللغة «نظام شكلي لا شعوري يعتمد على الفروق، وليس على القيم الإيجابية الثابتة، فقد دعا إلى دراسة اللغة كغاية في ذاتها ولذاتها» وهذا خلاف مع الدراسات الغيولوجية والمنطقية (تنظر إلى اللغة كأداة لتسمية الأشياء أو كوسيلة تعبيرية فردية)، وبالتأكيد لو تم الإبقاء على هكذا طرح، سنجد ضيق السجن الذي أودعته اللغة. جوليا كريستيفا، تعبر عن رؤيتها: «أرفض قراءة ساذجة للنص، لكن هل النص هو ذاته وكفى» بمعنى هل النص هو شكل أو سطحي، ظاهري، هذا اعتقاد يسود الغرب بأن العلاقة مع المباشرة والواضح، يجب أن تقطع والغامض هنا في هذا السياق، هو غامض شفيف موحي، محرك وله مؤدى، وفي النهاية ذو موضوع، رغم الستارة الحائلة بيننا وربينه، هناك أخيلة وشخوص يمكن تبينهما في حين أن دريدا يرى أن لا حقيقة خارج اللغة والحقائق برأيه، ومشكلات الحدث، والنظام، والعلاقات المؤسسة للمقولات والأفكار ليست إلا مؤشرات لغة لها سطوة على الوعي، وهي من يشكل ديناميته وتفاعلاته المختلفة، بينما السيميولوجيا، تذهب إلى الدال، وتناقش النظام الدلالي والعلامات وحيثيات إنتاجها للمعنى، وإذا أخضعنا كل ما هو كائن أو مدرك لعلاقاته، وأنماط معيشته، بكل مستويات التفكري متحرراً أو طوباوياً ذاهباً إلى الأسطورة ولخرافة أو على المحسوس والماثل الواقعي للغة الموقعة بإشارتها من صفة البراغماتية نتعرّف على جوناثان كوير: يهذب اللغة والاستفادة منها من بعض الآراء التي سبق وأوردناها. كونه يدرس الظواهر الاجتماعية والثقافية من باب علم اللغة مستنداً إلى اعتقادين:
1 ـ الظواهر الاجتماعية والثقافية ليست مجرد أحداث مادية بل هي موضوعات وأحداث ذات معنى «وبالتالي هي إشارات».
2 ـ إن هذه الظواهر ليست جواهر أو ماهيات قائمة في ذاتها ومحددة بشبكة علاقات داخلية وخارجية.
(وإذا كانت الأفعال الإنسانية ذات معنى، فلا بد في أن يحكمها نظام تحتي من التميزات والأعراف والعلاقات والقيم التي تجعل من المعنى أمراً ممكناًَ) وبالتالي هذا المعنى يقودنا إلى جوهر نلهث في الركض خلفه، ويمكن أن نعده الغائية التي من أجلها، بنيت الحالة، وعلى ضوءها تأسست المنظومة الكتابية برمتها، متمنياً من ألا يؤخذ من كلامي هذا، بأنه التركيز على وظيفة الأدب والخوض في قضايا محسومة، وأخرى لم تحسم بعد ومنها (الفن للفن) أو (الأدب الملتزم) أو غيره.