الشاعر محمد عضيمة: الخليل بن أحمد الفراهيدي صديق قديم!!
* في كتابك «الشعر الحديث واغتيال الحاضر» تقول: «الحداثة هي، بتعبير ما، العيش بذاكرة لا يجب أن تمتلئ، أو أن تعنى، بأكثر من تراث مائة سنة بالنسبة إلى إنسان ينتمي إلى عصر سريع في حركاته وتطوراته كعصرنا». ألا ترى أن هناك تشويشاً في هذا الحكم «بتعبير ما»؟ ثم ماذا عن طزاجة الرؤيا الحداثوية المتوفرة – أحياناً – الآن وبمعناها التجاوزي؟ وقد تكون متوفرة في نصوص قديمة – زمناً – أيضاً؟
- لا أعتقد. ويبدو أنك تريد أن ترى تشويشاً «بتعبير ما». لا توجد طزاجة حداثوية في أي نص قديم مهما بلغ شأنه. فالحداثة مرتبطة، في نظري، بالحاضر وإنتاجات الحاضر وهذا الحاضر أعطيته زمن قرن واحد، وهذا يكفي باعتقادي. مع أنني وفي أماكن أخرى أرفض حتى إنتاج الأمس بالمعنى الحرفي لكلمة أمس. الحداثة، المعاصرة، وما شابه من هذه الألفاظ، تعني الحاضر. فالحاضر نقيض الماضي ولا يمكن أن يتعايشا. وفي سياق الثقافة العربية السائدة نحتاج إلى مثل هذا الموقف الجذري، لأن الترقيع لن يفيد ثوباً مهترئاً والمرض العضال لا تفيده الأدوية: إذن لا بدّ من عملية جراحية تؤدي إما إلى الشفاء أو إلى الموت. فنحن أمة تعبت من الأدوية والترقيعات وآن أوان الفطام مع الماضي.
* الهاجس الحياتي الذي يتجلى نبضاً.. وتجربة، والهاجس الشعري المتكئ على التجربة يختلطان.. يتقاطعان.. ينفصلان.. يتطابقان.. والآن هل يستطيع اليومي بالنسبة لك أن يكون سيداً للشعري؟ وإن كانت الإجابة بالإيجاب، هل أنت واع لهذه المعادلة المربكة؟
- يبدو لي أنك لم تلتقط طرف الخيط الشعري الذي أعمل على فتله ونسجه، رغم الأحاديث الجانبية التي تبادلناها معاً في أكثر من مناسبة. لا يوجد شيء اسمه «سيداً للشعري»، للشعر تجليات متعددة، ظهورات مختلفة، ولا يمكن حصرها أو ضبطها داخل إطار اليومي، أو السنوي أو الأسبوعي أو الشهري؛ بعض ما أعمل عليه هو تخليص النص – من مفهومات السيادة – ومن ورطات الموروث والذاكرة، وتحويل الشعر إلى شيء طبيعي كالهواء يمكنك أن تتنفسه في كل حركة من حركاتك، أحاول إيجاد طريقة لتقديم الشعر تقديماً يعيده إلى الأقدام دون أن يتناقض مع الرأس، تقديماً يجعل من كل شيء كائناً شعرياً، أحاول تخليص الشعر من هذه الطقوس التقليدية التي جعلت من الشاعر ومن الشعر أشياء خرافية، أشياء دينية لا يستطيعها إلا من أنزلته السماء من بين طياتها الميتافيزيقية. وأنا واع كل الوعي لما أقوم به: فالأمر ليس سهلاً، والمعركة التي أخوضها قاسية جداً، مع ذاتي أولاً ومع المحيط الشعري السائد ثانياً. لكنني سوف أربحها في النهاية لأنني أخوضها بصدق وقرائي يتزايدون يوماً بعد يوم، وتجربتي بدأت تجد صدىً قوياً لدى الأصدقاء من جميع المستويات والاتجاهات الشعرية. وأدعو أصدقائي، جميع أصدقائي، إلى شعرية قوامها الفرح والابتهاج، شعرية غير عابسة، شعرية ضاحكة، تعيد للعبث معناه الأولي، وللجنون قامته الأولى.
* هل أنت مبرمج ضمن اهتماماتك المتشعبة (شعر، نثر، ترجمة، نقد)؟ أم أن الهواجس اللغوية تحتويها عجينة واحدة جذرها أو ماؤها الأول لغة متشعبة الاحتمالات... متقاطعة الهموم؟ !
- أنا كائن مبرمج شعرياً، إن كل ما أكتبه من نثر أو من نقد وكل ما أقدمه من ترجمات، يقود في النهاية إلى خدمة مشروعي الشعري، إلى تبرير نصوصي الشعرية. عد واقرأ جميع ترجماتي إلى العربية، عد واقرأ جميع كتاباتي المتعلقة بالشعر والشعرية، فسوف ترى أنها تسير إلى جانب النصوص وأنها آراء ونتائج مستخلصة من تجربتي الشعرية ولم أدخل في التنظير قبل الشعر، بل كتبت الشعر أولاً وانتهيت إلى ما هو عليه الأمر من مخالفة الشعرية السائدة حتى لتبدو نصوصي وكأنها نوع من الجنون والعبث، نوع من الحفر في الرمل، أو نوع من دق المسامير في المياه، أو نوع من ذر الغبار في الوجوه، وجوه الشعراء القابعين – وباطمئنان رجال الدين – تحت خيمة التقاليد الشعرية السائدة. وفي الأمر مغامرة غير مضمونة بالتأكيد، ولكنها مغامرة لا بدّ منها إذا أردنا التقاط الحصى وتكسير النوافذ لفتحها أمام الحداثة والتجديد. إن في داخلي من العبث ملايين البراكين التي لم أفجرها بعد، فمشروعي طويل طويل رغم القصائد القصيرة التي أكتبها، وأراقب عن كثب شديد الحركة الشعرية العربية السائدة وأدرك جيداً أين الفجوات وأين الامتلاء.
* هل نستطيع افتراض أن الترحال ورؤية المطار وبشكل دائم ومستمر هو إيقاع شعري عربي تحاول تصنيعه إلى «هايكو» أو إلى إيقاع متشظ يعزف دائماً بنوطة جديدة؟ رغم ما أراه من رتابة فراهيدية جغرافياً!
- هو بالأحرى إيقاع شعري ذاتي، فالكثير من الشعراء العرب يسافرون ويسافرون ولا يتركون جغرافيات جدّنا الفراهيدي ولا رطانتها ولا رتابتها. إن اللااستقرار في جهة ما وعدم القدرة على ذلك داخلياً، جعلاني أتجه إلى اللااستقرار في الكتابة الشعرية، جعلاني أميل إلى السرعة في قول ما أريد قوله، ودفعاني إلى اتجاه جديد في الشعرية يميل إلى الانفجارات والتشظي، إلى حالة يصعب تحديد براءتها وتصعب إدانتها، السفر ورؤية القطارات وهي تقلع من محطاتها، ورؤية الطائرات وهي تشدّ باتجاه السماء، السيارات وهي تشخر بدخانها الأسود في كراجات الانطلاق والوصول، كلّ هذا يجعلك تتجه إلى اللا اتجاه، كل هذا يؤثر بي تأثيراً كبيراً وكأنني طفل أرى هذه الأمور للمرة الأولى في حياتي. أتمتع متعة خاصة عندما أندهش بجسدي وهو يتلقى هذه التنقلات كصبي مراهق. إنني عاشق كبير للمراهقات الجمالية، مراهقات السفر، والتنقل من نص إلى نص آخر لا يشبه الأول.
* على ذكر الفراهيدي، أنت تتحدث عنه كثيراً في قصائدك، بالمعنى الساخط والمعارض، هل التنظير للشعر في القصيدة مطلب؟ أم أن التجاوز في القصيدة فنياً يحقق المطلب ويطرح الرؤى البديلة؟... أقصد المطموح إليها.
- الخليل بن أحمد الفراهيدي صديق قديم، وخلافي ليس معه بالذات، بل مع أولاده الذين لا يعرفون كيف يصلون إلى سن البلوغ والرشد وبالتالي يتركون بيت العائلة ويستقلون في بيوت خاصة بهم، يريدون البقاء أبناء إلى ما لا نهاية، يخافون من التحول إلى آباء، أي لا يريدون الإنجاب وتحمل المسؤوليات الناتجة عن ذلك. وحديثي مع صديقي الفراهيدي داخل القصيدة ليس سخطاً أو معارضة، بل هو من قبيل الاستفزاز وخلق حالة من الفوضى في الجو الذي نعيشه، هو تذكير القارئ بأن الفراهيدي قد مات منذ زمن بعيد ولا يزال أولاده «أولاداً» يأخذون الشعر على محمل الجدية العابسة، ويحصرونه حصراً في أركان أبيهم... داخل القصيدة، كما أفهم الشعرية. كلّ شيء ممكن بما في ذلك التنظير ما دام الأمر يتم بطريقة ظريفة وغير مزعجة، بطريقة تقارب المزح والضحك، وكان بودي أن تقدم مثالاً على ذلك. لكنك تطرح السؤال وكأنني ذكرت هذا الصديق في كل صفحة وفي كل قصيدة. ويبدو لي أنك، أنت الآخر، لا تزال تعيش بعقل توحيدي، ميتافيزيقي متجذر في أعماقك، وأدعوك إلى الابتعاد عنه قليلاً عند طرح الأسئلة.