السينما في جيبك: الموبايل بوصفه أستوديو برسم المواهب

أتاحت التكنولوجيا الحديثة الفرصة لمن يرغب، وربما لمن لا يرغب أيضاً، بمقاربة غواية السينما، ونشر مزاولتها بشكل واسع وديمقراطي على أصقاع الأرض كافة، وفي مختلف لغاتها وجنسياتها، بعيداً عن الرقابة والاحتكار، فالأمر برمته لا يحتاج أكثر من امتلاك المرء لجهاز خلوي مزود بكاميرا، حتى يمارس هذا الهوى بالطريقة التي يشاؤها، فتقنيات الأستوديو الهائلة تتحدى كل العوائق والصعوبات، إنها بمثابة«كاست» التصوير، وفني المونتاج، وفوقها هناك شاشة عرض، وبوجود تقنية البلوتوث تتبخر مسألة التسويق والنشر، وهكذا يشهد الفيلم القصير ازدهاراً غير مسبوق، وتنوعاً مدهشاً شمل الموضوعات والمدارس والأنواع كافة، لترى في حافظات الموبايل أفلاماً منها الكوميدي، والرعب والأكشن، والوثائقي، والرومانسي.. إلخ.

إن هذه الكاميرا المتأهبة في الجيب كفيلة بإثارة فضول أي كان للتصوير وتوثيق أجمل اللحظات، بما يغني، وربما بشكل نهائي، عن فكرة (دفتر المذكرات)، وهي كذلك دعوة لأصحاب الحساسيات السينمائية، وعلى الأخص الهواة منهم، لصناعة أفلامهم الشخصية متحدين الاحتكار السائد على أسماء معينة، ومطيحين بمسألة التكاليف الإنتاجية، والأهم هو الانفتاح على رؤى ومقترحات وأفكار شديدة الطزاجة والحيوية والطلاقة، تقدمها الأداة نفسها.

ساعدت في هذا الازدهار عوامل موضوعية شتى، منها اعتماد المحطات الفضائية على بعض هذه الأفلام التي تسجل الأحداث لحظة وقوعها، لتصبح ضمن عرفها المهني «خبراً حصرياً» تدفع مقابل الحصول عليه ملايين الدولارات، بعدما كانت تعتمد على أقوال وروايات شهود العيان، ويبدو أنه جاء الوقت الذي تصبح فيه صور الموبايل شهادة حية ودقيقة بدلاً من تلك الشهادات التي ترد متضاربة ومتناقضة، أغلب الأحيان، مما يؤكد الحكمة الصينية القديمة:( الصورة تساوي ألف كلمة).

وإن كان اعتماد الفضائيات، في هذا المجال، على التسجيلي والتوثيقي فقط، فالاعتراف الآخر، الأكثر أهمية، لكونه يُعنى بالجوانب الجمالية والبصرية والروائية، فلقد جاء من جهة ثقافية فنية تتحلى بالرصانة والصيت الطيب: (مركز بومبيدو الثقافي) في باريس، المركز الذي غامر بتجاوز الحدود المتعارف عليها في الفن، حين أسس أول مهرجان سينمائي دولي لهذا الفن الذي بات يعرف عالمياً باسم (سينما الجيب). وقد لاقى قبولاً واسعا في مختلف أنحاء العالم، لتقوم مهرجانات مشابهة، تواكب هذا التطور النوعي في مجال فنون الصورة، منها نسخة عربية ظهرت في مصر في ما عُرف ب« مهرجان القاهرة الأول لأفلام الموبايل»، ولعل فيروس السينما الصغيرة، إذ صحت التسمية، مايزال نشطاً وقوياً بما يتكفل بنشر العدوى في كل بلدان هذه المعمورة، فالجمال يستحق عن جدارة أن يحرق الأخضر واليابس، لا الأمراض والكوارث..

السؤال الأساسي هنا: هل (أفلام الموبايل) أو (سينما الجيب) صرعة عابرة؟ أم هي فن جديد يحتاج تكريساً، وشرعية وجود في عائلة الفنون؟

في الحقيقة الأمر مازال غائماً، وبحاجة إلى المزيد من الوقت لتتضح المعالم، وترتسم الخطوط،، لكننا نستطيع القول إنها مزيج من الاثنين معاً: صرعة وفن! وربما لو خطفنا الذاكرة للخلف قليلاً، لرأينا أن الفنون الجديدة على زمنها، طوال التاريخ، كانت تعامل بوصفها صرعات آنية ستزول، لكنها، ولقوة الجدة ومتطلبات التطور كانت تترسخ أكثر. (أفلام الموبايل) بهذا المعنى تبدو فن الصرعة، أو صرعة الفن، حتى يتم لها أن تتبلور في شكل ذي معايير وأساليب.

على موبايلات الشباب في سورية أفلام سورية لا نعرف من صناعها، يتبادلها الجميع عبر البلوتوث، والمرسل على الدوام مزهو بامتلاكها كما لو كانت تحفاً.

ثمة شاب يرقص (سلو) مع حمار، على خلفية موسيقا تصويرية منتقاة بعناية، الشاب يوقف الحمار على قدميه الخلفيتين، والحمار، أو الحمارة، يستجيب للرقص برشاقة..

ثمة، أيضاً، فيلم منزلي، عن عائلة تجتمع حول رجل هرم في أقصى حالات عصبيته، بحيث يسب الجميع، ويلعنهم هم والذين خلفوهم، كما يلعن نفسه لأنه سبب هذه (البذرة العاطلة).

وثمة امرأة، من حوران، على الأغلب، تغني بصوت عذب وشهي أغاني من فولكلور المنطقة بلهب عشقيّ حارق، تقول فيما تقول:

( يمّه ويا يمّه قلبي حارقني.. على حبيبي يوم الفارقني)

هذه الأفلام المجهولة الهوية جديرة بتسليط الضوء عليها، وعلى صناعها، لمواكبتها لحالة عالمية، من جهة، ولاشتغالها على خصوصية الإنسان، والبيت، والشارع السوري، وبما أننا ما نزال في بداية احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية.. لا بدّ من الانتباه لهذه الحالة، وإعطائها حيّزاً من الاهتمام، من خلال مسابقة لـ (سينما الجيب) السورية، وخصوصاً مع الأزمات، الإنتاجية والتوزيعية وسواها، التي تشهدها السينما السورية.

الموبايل، علاوة على فضائله في التواصل، هو مشغل صُوَرِي وإستديو للموهوبين الذين لا يجدون منفذاً، بالإضافة إلى أنه سبب لمتعة أخرى، وهكذا تكون الفكرة أن السينما باتت في حوزتك، معك أينما ذهبت، هي في جيبك.. حاذر أن تسقطها!!

• ر.و

آخر تعديل على الثلاثاء, 22 تشرين2/نوفمبر 2016 17:53