تراث مقتل بشار بن برد
يمكن اعتبار بشار بن برد أول شاعر «حداثي» في تاريخ الشعر العربي، فبفضله فتحت أمام الشعر ميادين جديدة لم تكن مألوفة في العصرين الجاهلي والأموي، وقد عبر بشعره عن انتقال المجتمع العربي الاسلامي من الحياة البدوية البسيطة إلى الحياة المدنية بكل تعقيداتها ومفرداتها الجديدة، محافظاً في الوقت نفسه على جزالة وفخامة الشعر العربي في العصور السابقة.
وقد كان بشار شاعراً مثقفاً مستوعباً لعلوم عصره ومطلعاً على كل التيارات الفكرية والسياسية المتصارعة في أيامه، وقد حمل كمعظم مثقفي ذلك العصر مزاجا معارضا للسلطة الحاكمة، إلا أنه لم يتورط بالانتساب إلى أي من الفرق السياسية الأيديولوجية التي كانت تحمل لواء المعارضة في ذلك الزمن. وعلى الرغم من أنه عمل على التكسب من شعره من خلال مديح أرباب السلطة والنفوذ، على عادة شعراء تلك الأيام، فإن ذلك كان يشعره بتأنيب في الضمير كثيراً ما كان يعبر عنه، وسنرى فيما بعد كيف كرس شعره في خدمة الثائرين على السلطة عندما حان أوان ذلك.
ينسب الكثيرون بشار بن برد إلى الزندقة والإلحاد ويفسرون بهما أسباب مقتله، مبرهنين على ذلك بمقولته الشهيرة: «لا أعرف إلا ما عاينت أو عاينت مثله» وبعدد من قصائده وأشعاره، بالإضافة إلى ميوله الشعوبية ودوره في انتشار اللهو والمجون في المجتمع مما يؤكد الاتهامين السابقين. وهذا التفسير لمقتل بشار لا يصح عند الفحص الدقيق، لأن بشاراً لم يكن بالتأكيد من الزنادقة (كانت الزندقة في ذلك العصر وصفا يطلق على أتباع الديانة المانوية) بسبب خصوماته الكبيرة مع المانويين التي وصلت إلى حد هجائه لأحد معلميهم الكبار كعبد الكريم بن أبي العوجاء، أما إلحاده فلم يكن أكثر من نزعة ريبية لا أدرية عبر عنها في بعض مراحل حياته وكان المجتمع قادراً على استيعابها بسهولة في ذلك العصر، في حين جاءت شعوبيته في فتره لم تكن الشعوبية فيها قد حملت بعد معناها السلبي العنصري المعادي للعرب بقدر ماكانت حركة إحياء ثقافي لماضي الشعوب غير العربية التي دخلت تحت لواء الدولة العربية الإسلامية، وأخيرا فإن حياة اللهو والمجون التي بدأت تسود في المجتمع العباسي لم تكن من صناعة بشار بل كانت نتيجة طبيعية للحياة المدنية والإزدهار الاقتصادي، ولم يفعل بشار شيئا إلا التعبير عن ماكان سائداً في عصره.
وبعيداً عن هذه الأسباب المصطنعة يمكننا تتبع أسباب مقتل بشار في مواقفه السياسية، فأثناء فترة خلافة أبي جعفر المنصور ثاني خلفاء بني العباس قامت ثورة مدينة البصرة بقيادة إبراهيم بن عبد الله الحسني وهي من أخطر الثورات التي واجهت حكم العباسيين في بدايته، ونالت تأييدا شعبيا واسعا شمل عددا من كبار رجالات ذلك العصر كالإمامين أبي حنيفة النعمان و سفيان الثوري وراوية الأشعار الشهير المفضل الضبي، ولم يتأخر بشار عن الالتحاق بهذه الموجة الثورية فأيد الثورة بكل قوته وألّف قصيدة تعتبر من أشهر قصائده أيد فيها إبراهيم بن عبد الله وحضه على الثبات والشجاعة، وهجا المنصور هجاءً مراً وهدده باقتراب نهاية أيامه، وبعد أن تم قمع الثورة خاف بشار على نفسه فعدل في قصيدته وجعل الهجاء موجها إلى أبي مسلم الخراساني (القائد العباسي الشهير الذي قتله المنصور) بدلاً من المنصور.
ورغم ذلك فإن تلك الحيلة لم تنطلِ على المنصور والسلطات العباسية وبقي بشار في القائمة السوداء بانتظار حلول الفرصة المناسبة للتخلص منه، وقد حلت تلك الفرصة في عهد خلافة المهدي الذي قاد حملة إرهاب منظم ضد خصومه عن طريق اتهامهم بالزندقة ومحاكمتهم على ذلك الأساس. وقد كانت طبيعة الشاعر الحر قد تغلبت على نفس بشار من جديد، فهجا الخليفة وأحد وزرائه في قصيدة ملتهبة، فما كان من المهدي إلا أن أمر بجلده حتى الموت، ونفذ الأمر وألقيت جثة بشار في أحد اهوار البصرة لتنتهي بذلك واحدة من أعلى قامات الشعر العربي على مر العصور.
■ محمد سامي الكيال
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.