فيروز تغنينا على بوابة الانتظار
دار سجال واسع وعريض في لبنان، بين مؤيد ومعارض لحضور فيروز إلى دمشق، إلا أن سيدة الفن الأزلي التي لم ترتهن يوماً للسياسي الزائل، حسمت الأمر، وجاءت لتزين سماء عاصمة الأمويين ـ عاصمة الثقافة العربية لعام 2008، لينتهي الترقب، ويفتح ستار المسرح على الحلم المشتهى.
أخيراً.. تصدح موسيقى مسرحية «صح النوم»، يظهر على واجهة المسرح قصر الملك، وساحة البلدة ببيوتها الصغيرة وبئر الماء، جموع الممثلين والراقصين، والسيدة فيروز بشمسيتها الوردية، وعند لحظة التفاتتها إلى الجمهور، يعلو التصفيق والهتافات: فيروز.. فيروز، فملاك الصوت الرخيم تسطع أخيراً على المسرح، في دمشق، بعد غياب دام طويلاً.. أطلت بطلعتها البهية وحضورها الفيروزي الذي يختصر زمن الحب والفرح والجمال.. أطلّت، فبدا العمر صامتا هادئاً، يخاف عليها من وقت مضى. نتساءل هل ستستطيع أن تفرش خشبة المسرح بخطواتها الأنيقة؟ دقائق فقط وتتراءى لك روح قرنفل الصبية المشغولة بدأب انتظار ختم الملك، تقف مع الناس في الساحة، تحاول أن تأخذ مكاناً لها بين جموع الناس، إلا أن صوتها الذي يعلو، يؤرق الحاجب زيدون (إيلي شويري)، فيكلل استثناءها بحضورها الأنثوي، وصوتها الموجوع بحلم بسيط هو إعادة تأهيل سطح بيتها المدمر. صوتها الذي يختصر أوجاع الجموع المنتظرين في الساحة أن يصحو الوالي بعد شهر من نومه العميق، يكلل استثناءها. شمسيتها المزهرة تثير حفيظة وسؤال الوالي، فليس هذا وقت المطر ولا وقت الحر، فلماذا تحملها بيديها مطلع كل شهر عند الساحة؟ إلا أن قرنفل تحمل شمسيتها مؤكدة على استثناء حضورها، معلنة للوالي أن شمسيتها هي هوية حلمها البسيط لإصلاح سقف عتيق خوفاً من برد الشتاء وحر الصيف، خوفاً من أن تغادرها الطيور والعصافير إلى سطح القصر، فتغدو بلا عصافير. تحاور قرنفل الوالي والحاجب، تجادل بحقها وإجحاف السلطات لها ولغيرها، تغني فيروز وتهمس وتتحرك في المسرح فتشعرك أنها قرنفل الصبية الهائمة في مدارات ساحة المدينة، تنسى للحظة عمرها الحقيقي، وتذوب بألق شبابها الهادئ.. صوت قرنفل الممتد إلى صمت الجموع يشكّل صوت الضمير العام الذي يبحث في أسباب بيروقراطية الحكم.. حكاية السياسة التي تفرّد مسرح الرحابنة بصياغتها عبر المسرح الغنائي، وعبر حكاية مؤلفة تجوب في الحقائق العامة التي تستنطق أمثولة خاصة عن الواقع السياسي المعاش، دون أن تطلق العنان لتفاصيل العمق السياسي، والاكتفاء بالتوريات الرمزية المجسدة بالشكل الفني الغنائي الراقص الذي ينطق بأفكار لا تشيخ على مر الأزمنة.
قرنفل تسرق ختم الملك المصنوع من خشب الجوز أثناء غفوة الوالي في حديقة القصر، وتختم لأبناء البلدة جميعهم، فتنجز لأبناء بلدتها ما دأبوا على انتظاره شهوراً. وهكذا تتغير معالم المدينة، وحين يصحو الوالي، ويرى ملامح التغيير في البلدة، لا تسعده، ويكشف بدوره عن غاية الحكم، وكيف تعمّد تأخير معاملات الجموع ليتسنى له ابتكار مسببات ارتباط حاجات الناس بقوانين حكمه، وحين يعلم من قرنفل أنها من سرقت الختم، ورمته في البئر، يعلن أن الختم الخشبي الذي صنعه أجداده من قبله، لن يغرق لأنه من صنع الدولة الخشبية، في إشارة تهكمية ساخرة لبيروقراطية الحكم الملكي الذي يتبجح بسن قوانينه الخاصة التي تتعارض مع مصالح الناس، فتفسد حلم التغيير وحلم العيش الكريم.. تصدح التوريات السياسية بأداء أنطوان كرباج الذي ظهر كملك وكوال على رعيته، وكأسطورة في الأداء المسرحي.. تصدح قرنفل التي تنزل إلى البئر بصوتها العميق، فتعلو هتافات الجمهور مرة أخرى لصدى صوتها القادم من متاهات الزمن الماضي والحاضر معلناً رسالة الحب، ورسالة العطاء.
أيدي الجموع التي حنت عليها وشدت الحبال عند نزولها البئر، جعلتها تقوى على انتشال ختم الملك الخشبي الذي طفا على سطح الماء.. تصعد من البئر لتكشف عمق رسالتها النبيلة، فيتأثر بها الملك ويختم نهايته بمنحها الختم لتختم به لأهالي البلدة. تنتهي المسرحية نهاية سعيدة، لا تشبه واقعنا السياسي بشيء، ولكنها تشي بإمكانية ورغبة بحلم التغيير، الحلم الذي أنجزته الموسيقى والغناء والرقص وصوت فيروز، والذي قد يوقظ ضمائر الحكام لينظروا بشؤون شعوبهم المغلوبة على أمرها..
غادر الممثلون والراقصون الخشبة كفراشات وطيور برية محلقة في سماء سحرية.. غادر أنطوان كرباج كملك، وغادرت فيروز بصوتها وحضورها الملائكي المسرح، معلنة قوة الكلمة والمعنى على مشارف السياسة، تاركة خلفها آلافاً من عشاق مسرحها الذين لم يتسنّ لهم حضور المسرحية – الحلم بعد انتظار طال على أبواب دار الأوبرا.. انتظار لم يرأف به سعر بطاقات غلا ثمنها، فحالت دون لقاء فيروز بعشاقها الذين غافلتهم مسرحيتها «صح النوم»، فأرخت ظلال النوم على عيونهم، وتركتهم على بوابة الانتظار.