متلازمة نقص الفلسفة المكتسب
يصعب اليوم، كما كل يوم، وضع تعريف جامع للفلسفة، فهي كباقي ضروب الثقافة الإنسانية عصية على التعريف، فما من أحد يستطيع تعريف الفن أوالأدب تعريفاً جامعاً مانعاً؟
حتما لا أحد، ولكن كل ما ذكرت يحتمل مئات الشروح إن لم يكن الآلاف، هذا هو عمل الفلسفة التنويع على، أو الشغل في، أو إيصال للمعرّف، إلى مناطق غير معروفة، لا ترسيخ لتعريف ما يفترض أنه معرفٌ...
الفلسفة حاجة بشرية كالماء والهواء، تُلقِحُ العقلَ بفيروس «القراءة،المعرفة» والذي سرعان ما يحوّل العقل إلى كتلة نشاط لخلق مناعة ضد أمراض المغالاة والتطرف والجهل طيلة الحياة، تماماً كما تفعل الفيروسات في أجساد الصغار إبان تلقيحهم بفيروس الشلل أو الحصبة.
إن كلاماً من قبيل «الفلسفة من أخطر الطواغيت وأشدها شراسة في محاربة الأديان، حين تستخدم المنطق الذي يسهل تلبيسه للناس باسم العقل والتأويل والمجاز الذي يجرف به النصوص، حتى جرّت على المسلمين شيوع الفتن وانتشار الفِرق وأهل الأهواء» لهو كلام الضعفاء، والردّ عليه قد يستهلك هذه المقالة أو يزيد. ما يؤسف له أن الفِرق ظهرت إبان القرن الأول من عمر الإسلام، بينما كان ظهور الفلسفة الإسلامية، مع بداية 150 هـ أو يزيد!!.فهل العيب في الفلسفة أم فينا؟ ثم لماذا هذا الخوف من الفلسفة؟ أم كاد المريب يقول:خذوني. ألسنا بحاجة لفلسفة ثقافتنا حتى تستطيع الصمود ضد واضعي الإستراتيجيات الكونية؟ و ما نفع دس الرأس في الرمل بينما باقي الجسد معرض للأهوال والضواري؟ ولن تبدأ الفلسفة إلا حيث تنتهي العاطفة، فالدين بشعبيته الجارفة أقوى من الفلسفة، ولكن لكل منهما مناطق عمل مختلفة. يقول د.فؤاد زكريا:« إن السبب الأكبر للتعارض بين الفلسفة والدين، لم يكن نوع الأفكار التي ينادي بها الطرفان، وإنما طريقة التفكير لدى كل منهما. إن الخلاف بين الفلسفة والدين لم يكن في الأساس خلافاً في المحتوى والمضمون. بل كان خلافا في المنهج. ويتلخص في أن منهج التفكير الفلسفي نقدي، في حين أن منهج التفكير الديني إيماني. هذا الخوف من الفلسفة استدعى بالضرورة انحساراً وقلة في عدد المشتغلين في هذا الفرع من المعرفة. فمن يريد أن ينطبق عليه القول «من تمنطق تزندق» أمام هذا الكم من الركام كما سمى د.أحمد البرقاوي العاطلين عن الفعل الذهني..
في القرن التاسع عشر كان عدد الألمان أقل بمئات المرات من عدد المسلمين والعرب اليوم، بينما كان عدد الفلاسفة بحضورهم، المعرفي والفيزيقي، يزيد على الثلاثين من أمثال ماركس، إنجلز، فيورباخ، نيتشه، هيغل، كانط، والقائمة تطول، كان ذلك بدافع قومي متجذر في الألمان لخوفهم من تمدد الإنكليز والفرنسيين في العالم أمام تخلف ألمانيا. العرب والمسلمين إلى اليوم إما شارحون أو متلقون للفلسفة، وفي أحسن الحالات مستخدمون جيدون،ولم يكونوا يوما مبدعين لها. طيلة القرن العشرين لم نعرف سوى القليل القليل ممن عملوا وأسهموا في الفلسفة، ونستطيع دائما تمييز نثرياتهم وردها بسهولة إلى أي تيار فلسفي تنتمي.. فمثلا نصر أبوزيد والجابري نثرياتهما بنيوية. عبد الله العروي، صادق العظم حسين مروة، ومهدي عامل فماركسية. وعبد الرحمن بدوي وجودية. وزكي نجيب محمود وضعية. ما أحوجنا للفلسفة في هذه الظروف وما أحوجنا للبحث عن تيار فلسفي خاص يفرد ذراعيه لمشاكلنا يفككها،لا يلوكها بين أضراسه ويجترها.. عسانا لا نذهب لطبيب ألماني ليشّخصَ لنا مرضنا قائلا: الجسد سليم ولكن شلل أدمغتكم سببه، متلازمة عوز الفلسفة، حصّنوا صغاركم.