مطبّات كما يليق بأم...
في لقاء حمل عنوان (ريبورتاج مع محمد الماغوط) أجرته مجلة الناقد التي كانت تصدر في الثمانينات أجاب الراحل الكبير عن سؤال حول بيروت فقال: «هي مثل أم منهمكة بالغسيل وإذا بانَ فخذاها قالوا عنها عاهرة»، حينها أطاح «الماغوط» بكل التعريفات لبيروت المدينة ـ المشكلة، وبكل آراء الذين اجتهدوا في وصف حالتها، مدينة تعيش رغم الموت والدمار والحصار والفوضى، ببشرها، ومزاجها الحار، وحرية صياحها، احتضنت كل الأبناء الفارين من مدنهم القاسية المحكومة بالصمت وكمّ الأفواه والأقدام.. بحب حملتهم بيروت وحلُمت بهم، وحمَّلت بعضهم على سفن اللاعودة باتجاه الرصاص، مدينة تغوص بالموت حتى الحياة.
يفتح «الماغوط» العيون على رؤية المارقين والقاعدين على موائد الساسة وعصابات الأحزاب آنذاك فتلك المدينة، ليست سوى امرأة فاجرة، من شهوة وجنس وبغاء وفوضى..
تذكرت (بيروت) ووَصْفَ «الماغوط»، وأنا أقرأ ما يكتب يومياً عن احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية، وكل مايجري من تحضير على الأرض والورق، وكيف يُستعد لهذا العرس الوطني، فهل ترشيح دمشق هو من باب إعادة الاعتبار لمدينة ليست بحاجة إلى تتويج..؟
دمشق تاريخ بعمر التاريخ، شاهدة على حواضر وحضارات استوطنت قلبها، ودول عظمى كانت عاصمتها ذات يوم فهي منذ الأزل وحتى الآن، ليست مدينة مسترخية وهانئة، هي نقطة اتزان كل الصراعات، حولها دارت معارك موت ودم، وتعالت في جنباتها صيحات نصر ومجد..
العد العكسي بدأ، أربعون يوماً وتنطلق الاحتفالية، تزين دمشق على جبين العواصم العربية كدرَّة مضيئة، كما الأمس.. ولكن ماذا أعددنا لذلك اليوم..
أفاقت محافظة دمشق متأخرة على استحقاق المدينة، فأسرعت باتجاه إنجاز ما يمكن أن يدلّ على أنها فعلت وعملت.. ولكن، ماذا نرى على الأرض..؟ ورشات تقلب الشوارع الرئيسية والقديمة رأساً على عقب، وأحجار سوداء تصطف لتلون من جديد شوارعها المكتظة، وأكوام رمل أبيض وأحمر، وغبار يتطاير فوق كل التلوث المحيط بها.. الساحات أعيد رسم شكلها رغم سنوات على بدء الشروع بتنفيذها، فساحة (العباسيين) لم تزل على حالها، أما ساحة كفرسوسة فسيبدأ العمل بها قبل شهر من الاحتفالية، ودعوات مستمرة للمواطنين بتنظيف الواجهات وإزالة (الدشات)، والمواطن لديه مايكفيه من هم، ليبقى أهم ما أنجز هو ساحة (المحافظة) فعلى الأقل يبدأ المرء ببيته!
أما ما لايمكن للمحافظة أن تجد له حلاً، فهو الإطار الفقير المخالف المحيط بالمدينة، فتجمعات المخالفات في (عش الورور) ومزة 86، ودمر...الخ، والضواحي المهملة (التضامن، دويلعة، دف الشوك، الدحاديل)، حزام الفقر المدقع، هذا ماذا سنفعل به؟ أم أن في الفقر جمالاً لايراه سوى الأغنياء؟!.
أما المدينة القديمة، فالمطاعم سكنت بيوتات دمشق العتيقة، ومشاريع البنى التحتية ما تزال مطلباً لساكنيها ولا تزال المحافظة تعدّ له الدراسات والمخططات، فليس تزيين الساحات ونصب (المقاعد) حولها، دليلاً على الإنجاز (كما في ساحة الحريقة).
والبسطات التي صارت ميزة لشوارع دمشق، والحالة الاقتصادية لم تعد مستغربة، فماذا ستصنع بها المحافظة، وهي حاجة عيش لمن يمد بساطه وكومة رزقه؟.. وطاولة اليانصيب، وسيارة التفاح في البرامكة، هل سترسل المحافظة دورياتها لتعجن في سياراتها البندورة مع علب الدخان المهرب والتفاح مع مئات من (السيديات) غير المرخصة؟!.
بكل بساطة، لا يكفي أن تجتهد المحافظة التي أفاقت متأخرة، ولا المنح التي ستقدمها مديرية الاحتفالية للفنانين والشعراء والكتاب...
ببساطة، نحتاج إلى نداء يكون شعاره احتفوا بدمشق (كما يليق بأم)، الكل يجب أن يشارك ولكن كيف؟!
لكل دمشقي ودمشقية، لكل الساكنين تحت أسقف بيوتها وجدرانها.. نداء للمشاركة في هذه الاحتفالية، ليس لرسم صورة للزائرين.. وليس ليتحدث الإعلام عن مدينة جميلة تدعى دمشق..
دمشق وحدها التي نحب، فرصة لإنقاذ مدينتنا (أمنا) الغارقة في بحر من ثاني أوكسيد الكربون، والذين يودون حصد مايمكن من المال العام لجيوبهم، فرصة للوفاء... للاحتفال بأمنا (كما يليق بأم)..