عن المشهد الإبداعي الفلسطيني في سورية: معارك جانبية وفناءات خلفية!!..
ربما حان الوقت للحديث عن الفساد الذي يطول المشهد الثقافي والإبداعي الفلسطيني، على الأقل في سورية، خاصة وأن الفساد في المؤسسة السياسية الفلسطينية لم يعد سراً، ولم يعد غسيلاً قذراً ينبغي ألا ينشر على الملأ..
وإذا كان صحيحاً، أن الحديث عن فساد المؤسسة السياسية الفلسطينية يقود إلى مناطق شائكة ومعقدة، بسبب تداخل العناصر والأطراف واتجاهات الرياح، وتفاعل القوى، وجدلية الداخل والخارج، وثنائيات الممكن والمستحيل، والاستراتيجي والتكتيكي، والحرب والسلام، ألخ.. فيمكن للمرء أن يتفهم الكثير من الظواهر والطروحات والصياغات السياسية.. من دون أن يشكل ذلك عذراً لائقاً، ونهائياً، للسياسيين الفلسطينيين الذين يمكن تحميلهم –في كثير من الأحيان- مسؤولية فساد وإفساد الثورة الفلسطينية نفسها، من دون أن يغيّر ذلك من موقعها في القلب والوجدان، كأجمل ثورة في التاريخ البشري، وكأكرم ثورة إنسانية على مر العصور.. حتى وإن تحولت بالنسبة للبعض إلى مجرد "بقرة حلابة"..
كل هذه الأمور تبدو مفهومة، وقابلة للمناقشة، وتقبل ببداهة – إحالات السياسيين والمفكرين الفلسطينيين إلى العوامل الموضوعية.. رغم أن بعضهم يبالغ في ذلك إلى درجة تثير الغيظ. أما ما يثير التساؤل.. فهذه الكمية من الفساد، الحاضرة في المشهد الثقافي والإبداعي الفلسطيني. ومصدر الأسى يأتي من التساؤل مرة أخرى عن أسباب هذا الفساد عند شريحة من البشر يُفترض بهم أن يكونوا الضامن الأخلاقي، والخندق الأخير في هذه الثورة.. خاصة بانحيازهم المعلن إلى مقولة "الالتزام".. وما يتبع ذلك من إخراجات وتعبيرات عن وجدان الشعب الفلسطيني..
غير أن الحال ليس بهذه النصاعة، وأكثر من ذلك.. ثمة ما هو قاتم إلى درجة المرارة والملل والغثيان.. ثم الإعراض. ففي الواقع الفلسطيني.. ما هو مؤلم وشنيع، فالحظيرة تفتح أبوابها للجميع: الأميين، وأنصاف الموهوبين، والطامحين، والعاطلين عن العمل، والمتقاعدين، وقدامى المحاربين، والمعوزين للألقاب، والباحثين عن الوجاهة، والكتبة والفريسيين. بيئة مبتذلة تكثر فيها المساومات والبازارات والترتيبات لاقتسام المواقع (أو التناحر عليها).. من دون إنجازات إبداعية لافتة، ثم ذلك الهوس لنيل غنائم صغيرة: كتابات رثة في الجرائد والمجلات، شهادات مرتبكة (أو فاسقة) في وسائل الإعلام، لهاث وراء أمسيات في مراكز ثقافية نائية (بالطبع ليس من أجل نشر الثقافة في أقاصي الوطن)، إصدارات تسبب الصداع، مدائح متبادلة، مجموعات شعرية وقصصية مشتركة ملفقة، قصائد مليئة بالصراخ، روايات باهتة، علاقات توازن، متسيدين وطامحات، أوهام وميكروفات، دمامل شخصية، عيّارين، جلاوزة، متشنجون..ألخ، ألخ!..
ما يزيد الأمر تعقيداً، ارتباط وتؤاطؤ السياسي والإبداعي في هذه الحالة. فالسياسي يعمل على ضخ الأوكسجين في المناسبات في صدور هؤلاء (المبدعين) ليظهروا –ويستمروا في الحياة- في وسائل الإعلام.. طالما أن القضية الفلسطينية هي مقولة أساسية في الأطروحة السياسية، ولذلك (فالمبدعون) ينصاعون لشروط اللعبة، فمواقفهم السياسية عند الإداء بشهاداتهم تندمج وتتطابق مع الموقف السياسي الرسمي للبلد الذي يعيشون فيه (يا للصدفة!) من دون تموضعات سياسية أو فكرية واضحة، بل غالباً ما تتبدل تلك الآراء بتبدل الموقف الرسمي، وتغيم حين يغيم، وتتراجع عندما يتراجع..
ومن نافل القول، إنه ما من حياة سياسية فلسطينية في سورية، فالخراب أصاب جميع مفاصلها، ولم يبق منها سوى الهياكل: لجان لا عمل لها، موظفون يتسربون من العمل، مهازل انتخابية، أطلال نوادٍ ثقافية، بقايا بوسترات، ميكروفات قديمة معطلة، خزانات كتب مقفلة (أين مفاتيحها؟)، صور شهداء (هي وحدها الناصعة!)..
نفهم أن للبعض أوهامه في الكتابة، أما ما هو عصي عن الفهم (والهضم) فهو محاولات العديد من المبدعين الفلسطينيين للمرور من البوابات الخلفية، حتى أن أحدهم لا يوفر مناسبة دون أن يؤكد حضوره الفضي على الشاشة لنشر الوعي التقافي والسياسي عند الجمهور السوري، بما في ذلك انتخابات مجلس الشعب، علماً أنه لا يستطيع الإدلاء بصوته فيها..