رائد وحش رائد وحش

الشاعر العراقي محمد مظلوم: الحداثة تنتمي للأزمنة اللامرئية

في تجربته تتحاور الأشكال الشعرية، وتتمازج في كتلة واحدة، برع في تدبير شؤونها. له سبع مجموعات منشورة، منها( المتأخر/ عابراً بين مرايا الشبهات) و(محمد والذين معه) و( اسكندر البرابرة). بالإضافة إلى أربعة كتب نثرية، يمكن تصنيفها في باب الأدب السياسي، وقد واكب كلّ منها مرحلة بعينها، ماقبل، وأثناء الحرب الأمريكية، وما بعد احتلال العراق، وكان آخرها كتاب (الفتن البغدادية).

في دمشق، حيث يقيم، أجرينا هذا الحوار.

• أنت شاعر حداثي، ولديك ولعك بالتراث، سواء اللغوي أو الفكري أو الروحي.. ما نوع العلاقة التي تقيمها مع لغتك الأم؟ ما الذي يعطيه التراث للحداثة فكرياً؟ أية روحانية تلك التي تعاش مع الماضي؟

كثيراً ما أقول إن امرأ القيس على سبيل المثال بوصفه أقدم المحطات المهمة في الشعر العربي، أشعر إنه صديق لي أكثر من آخر يجالسني في المقهى، ولا أستمتع بجلسته كما استمتع بصوت امرئ القيس القادم من زمن آخر ينعدم فيه الانفصال ليبقى محض اتصال لا زمني، ربما هذا يلخص إلى حد بعيد الإجابة على سؤالك، وبهذا المعنى فإن الفكرة التي تنظر إلى التراث من لفظه، بوصفه موروثاً فحسب، هي فكرة ساذجة، لأن الحضور في الراهن، يتناقض مع فكرة القديم المنقطع، لكن ثمة من صار يتباهى اليوم بأنه لا يفهم شعر امرئ القيس بل وحتى المتنبي، ويستمتع بإرهاصات أصدقائه، لأنهم يعيشون معه يومياً! إذاً هل نحن عشرة الأموات، وهم خلان الأحياء؟
هل الحداثة هنا بيننا فحسب، مثل الكومبيوتر والهاتف المحمول، أم إنها هناك أيضاً في انفلاتها من زمنيتها الواقعية نحو أبدية الفن؟
إذاً ليس ثمة ماض وقع في الهاوية! سوى ذلك الذي كان يرسم طريقه إليها، تماماَ مثلما يمشي العديد من الكتابات حالياً بخطى ثابتة نحو هاويته!
الخلود هو الذي يحدد زمنية الأشياء، والخلود لا علاقة له بخيل المتنبي ولا بندقية همنغواي، ولا برحلات رامبو، ولا بخبز أبن الرومي. إنها الحداثة إذاً تنتمي للأزمنة اللامرئية، وليس لمنجزاتها العلمية وراهنها الذي سيصبح لاحقاً وعلى الفور بحكم الماضي هو الآخر.

• من يتابعك يشعر بأنك  تحلم في أن تصبح الشاعر الوطني للعراق، كما حال نيرودا في تشيلي ونيكولاس غيين في كوبا؟ما رأيك؟

أولاً أنا لست ممن يؤمنون كثيراً بشعر القضايا، ولم أكن يوماً من المعجبين بشعراء القضايا الكبرى، كنتُ دائماَ ضدَّ هذه الفكرة التي ما برحت أرى فيها تعكَّزاً غير ضروري في طريق هي ليست طريق سباق على كلِّ حال. كنت دائماً مؤمناً بأن الشعر هو بحدَّ ذاته قضية ولا يحتاج إلى مزيد من الجرعات الإضافية ليكون قضية أكثر " جدوى"
ومن الواضح أن سؤالك هنا يتعلق بكتابيَّ الشعريين الأخيرين «أندلس لبغداد – 2002» و«اسكندر البرابرة – 2004 » أكثر من سواهما من الكتب الأربعة السابقة، وكما تلاحظ فإنَّ تاريخ نشر الكتابين ينحصر بين العام الذي سبق سقوط بغداد، والعام الذي أعقب سقوطها، وإذا لم يكن الشعر معنياً بهذا الحدث الكبير، سواء باستشعاره قبل وقوعه، كما هو الحال مع " أندلس لبغداد" أو بقراءته بالمعنى الحضاري الشامل كما هو الحال مع " اسكندر البرابرة" فلست أعلم حقاً ماذا يعني في مثل هذه الظروف! ولا أدري ما إذا كان  الصمت أكثر بلاغة وجدوى، لكنني لم أصمت على أية حال.
فجأة وجدتُ هجواً لم أصادفه طيلة فترة ثلاثة عشر عاماً من وجودي منفياً وناشطاً ضد نظام دكتاتوري، هجواً كمية ما صبَّ منه تجعلك تعيد أسئلة كبرى حول ذاتك؟ عن جنايتك الكبرى؟ والجواب ستجده سريعاً، لأنك قلت لا للاحتلال، مثلما قلت بالأمس لا للدكتاتورية "اللاء " المتصلة هذه هي المعضلة، ولعلك تذكر إن «اسكندر البرابرة» صدر في وقت واحد من ديوان «صلاة الوثني» لسعدي يوسف، وقد وقعناهما معاً في دمشق، ولقد نال سعدي من الشتائم، خلال الأعوام الأخيرة ما لم ينله من النظام الدكتاتوري خلال عقود. ماذا تسمي هذا؟ لذلك لا أحلام بأن يكون أحدنا شاعراً وطنياً أو رمزاً، أو.. ما نريده هو الانحياز لفكرة العدالة ورفض الطغيان مهما كانت هويته، لا منفى نيرودا المزروع بالحب والسياسة يشبه منفانا، ولا منفى غيين، وقضيته "الخلاسية" الممزوجة بالسياسة، كذلك، لقد تحولت أحلام العودة إلى كوابيس يومية في حياتنا. ونحن جيل تتجدد الكوابيس في حياته بمزيد من العناصر والمشاهد، من حروب  تتوالد واحدة من أخرى، إلى منفى يشبه التيه، وحصار يتناسل حصارات متعددة، أنا وجدت نفسي إذاً، في شرط تاريخي استثنائي، ولم يكن في اختياري أن أتحول للكتابة في هذا النوع من الشعر، ومع هذا فأنا أحاول أن لا أضع نفسي في نمطية ما ، حتى وإن كانت " أيقونة" الشاعر الوطني. ولذلك فأنا أعد لديوان شعري جديد، يحاول إيجاد مسافة نوعية وقطيعة موضوعية مع ما قدمته في الديوانيين الأخيرين.

• كتبت ثلاثة كتب في باب الأدب السياسي هي «ربيع الجنرالات» و«عراق الكولونيالية الجديدة» و«الفتن البغدادية»...وكلها تواكب مسيرة العراق قبل وأثناء الحرب وبعد الاحتلال، وتميز عملك في هذه الكتب بالتدقيق التاريخي، والقراءة السياسية،  إلى أين تريد أن تصل في هذا النهج؟

إن استثنائية الشرط التاريخي الذي وجدت نفسي فيه، هي التي دفعتني إلى إيجاد خيارات الكتابة وتنويعها أحياناً.
الدراسات كانت نوعاً من الخيار في محاولة قراءة ما حدث وما قد يحدث، محاولة تعرية الظواهر المصاغة بالعواطف والإنشاء الأدبي، والتوغل في الأعماق التي تحركت فيها تلك الوقائع الأصلية، والتي خلقت هذا الواقع الذي نكابده الآن.
كتبي الثلاثة السابقة، وربما ما سيعقبها من كتب، هي في سياق مشروع لا يمكن للشعر وحده أن يقول فيه ما يقول، نعم أنا قلت جانباً من موقفي "شعرياً" لكن ثمة مهمة أخرى أراها ضرورية تاريخياً ومرحلياً، وتتعلّق بإيجاد مقتربات محددة لفهم ما يجري لناحية الوعي بالوقائع، لا الاكتفاء بالتفاعل الظاهراتي «الشعوري» معها.