محمود عبد الكريم محمود عبد الكريم

إنه الفساد يا أخي

*... إنه الفساد.. والكلام لا ينتهي.. والألم لا يتوقف... يزداد الأغنياء غنىً  والفقراء فقراً..  وتعود الحقائق إلى دورتها الأولى، ومعادلاتها الصريحة..
فالفساد.. لا يدفع الناس إلى البحث المحموم عن معاشهم وتدبير أرزاقهم بأي ثمن فقط.. بل إنه يصل إلى مكوناتهم الروحية ويأخذ في نهبها، حتى تصل الأمور إلى قبول ما لا يقبل..

يصير اللص «شاطراً ظريفاً»، ومنتهك القوانين فهلوياً.. والسافل النصاب ابن زمانه.. وشيئاً فشيئاً تقف الأشياء على رأسها.. فتنهار الأخلاق.. وتشرع الأبواب للرذيلة وموت الضمير.. ويصبح البصيص الضئيل عتماً شاملاً.. ويصل الناس إلى المقولة إياها: ربي أسألك نفسي؟!..
*.. أحد المسؤولين.. قال بامتعاض: «إنني أعلم المواطنين على حسابي».. وبالتدقيق في العبارة.. يفصح المسؤول المبجل عن نظرته للوطن والشعب والمسؤولية.. «فالتعليم المجاني.. ليس نتاجاً لكفاحٍ طويل خاضه الشعب ودفع ثمنه غالياً، بل جاء منةً من المسؤول الكبير.. والمقلب الآخر من «الإفصاح» الصريح..: «بما أنكم لا تقدرون هذه المنة.. فقد نسحبها في أية لحظة».
وهذه قد تنسحب على كل ما أنجزه الشعب خلال العقود الماضية، فقد ينبري آخر ويقول: «لقد وزعت عليكم الأرض، وأممت المعامل وأقمت المشافي، وأسمح لكم بالمرور على الطرقات مجاناً».. فماذا.. لو تم التراجع عن كل ذاك.. وتمت «الخصخصة الموعودة» وصار حتى الهواء مدفوع الثمن؟ ماذا لو رفع الدعم عن الأساسيات «محروقات وأغذية» وترك الناس لمصيرهم.. باعتبارها عطايا.. وليست إنجازات انتزعها الشعب بكفاحه الطويل؟؟؟
كل يوم نمرّ بتجربة قاسية مع الفساد والمفسدين، تصل المرارة جراءها إلى حد فقدان الأمان، وانعدام الثقة واليقين، وتشعر للحظة أنك في عراء كامل، وأصوات ذئاب جائعة تأتيك راكضةً من كل صوب.
لا أريد أن أحرق ما جرى معي مؤخراً في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون... والذي يدخل في خانة مالا يمكن تصديقه أو تصوره... ولعلّ أقسى ما واجهته كيف يدفع الفساد أديباً أو متأدباً، إلى بيع ضميره بسرعة البرق، ويحول نفسه إلى عدو لدود لخبزك وحبرك وإنسانيتك، أو يدفع صديقاً «مديراً» لأن يدير ظهره لأبسط الحقوق وأكثرها صراحةً... وتصل للحظة تفقد فيها رغبتك حتى بالمطالبة بحقوقك البسيطة، وتفكر ولأول مرة في حياتك بالهجرة النهائية.
… وقائع فيها من الطرافة والنذالة ما يملأ مسلسلاً من أجل حقٍ بديهي صغير، ثم لا يكلف أحدٌ خاطره لا بسؤال ولا باعتذار، وتتحول المؤسسات إلى حقول تجارب للطامحين والطامعين والمطالبين من كل درب إلا درب الجدارة والكفاءة والأحقية، فبين الفساد وتلك القيم حربٌ ضروس لا تهدأ..
ـ الفاسد تثيره تلك الكلمات إلى حَدِّ الجنون:
«جدارة، كفاءة، نزاهة، مصداقية، شرف…الخ» توقظ شهيته المهووسة كما يوقظ القمر المكتمل شهية الذئب للدم، أو قدوم العتم لمصاص الدماء…
* الفاسد مصاص دماء، دنياه العتم، وضوء الشمس عدوه اللدود. إنه يكرهه، يمقته، يكره الشمس ذاتها…
* .. إنه الفساد يا أخي، ولا أمل إلاّ بتسليط ضوء الشمس عليه، وفضحه، ووضعه تحت رابعة النهار، مهما كان العراك مؤلماً ومكلفاً… ومهما كانت الأدوات قليلة..
* قليلاً من الشمس في مواجهة العتم… إنه الفساد يا أخي.