ملائكة بورخيس وبارثيلم(2) نبذة عن الملائكة

ترك موت الله الملائكة في حال غريبة يرثى لها. فقد استحوذهم، بغتةً، سؤال جوهري. وبمستطاع المرء، إن شاء، تخيُّل تلك البرهة. كيف كانت سحناتهم لمّا اجتاحهم السؤال، غامراً الوعي الملائكي، مُحكماً قبضته من حولهم بقوّة مروّعة؟ وكان السؤال:«ما الملائكة؟»
حديثو العَهد بالتساؤل، غير معتادين على الرّعب، عديمو الخبرة إزاء التوحّد، استبدّ اليأس بالملائكة (وهذا افتراضٌ اجترحناه نحن).

للسؤال المتعلق بماهية الملائكة تاريخٌ جدير بالتأمّل. فسويدنبورغ، على سبيل المثال، تحدّث إلى عدد لا يُحصى من الملائكة، وأخلصَ متفانياً في تدوين ما أوحوه إياه. يقول سويدنبورغ بأن الملائكة على شبَهٍ كبير بالكائنات البشرية:« إن كون الملائكة بشراً أو أشكالاً آدمية لشأنٌ رأيته في سالف عهدي ألفَ مرة». ويقول في مناسبة أخرى «من خلال تجربتي المديدة التي انقضى على انخراطي فيها الآن سنون كثار، بإمكاني القول إن الملائكة أجمعين هم بشر في مظهرهم، ولديهم وجوه، عيون، آذان، أجسام، أذرع، أيادٍ وأقدام.» أما الإنسان فلا يستطيع أن يرى الملائكة بعينيه الآدميّتين، بل من خلال عيون الروح فحسب.
وفي حوزة سويدنبورغ الكثير الكثير لكي يُضيفه بخصوص الملائكة، وكلُّ مقولاته عظيمة الأهمية: أَنْ لا يتسنّى لأيّ ملاك بتاتاً الوقوف خلف ملاك آخر فيرمقَ قُذاله، لأن هذا التصرف سيحول دون دفق الخير والحقيقة الآتية من لدن الرب، كما إن الملائكة يمكثون شرقاً حيث يتراءى الربّ لهم شمساً تتواجد على الدوام نصبَ عيونهم، ويكتسي الملائكة بلباسٍ يتباين طبقاً لدرجة ذكائهم:«فبعضهم أولو الذكاء الخارقِ يتلفّعون بأرديةٍ تتوهج كاللهيب مضطرماً، وللبعض الآخر أرديةٌ تأتلق كالنور مترقرقة، والأدنى في مراتب الذكاء في عدادهم يرتدون ثياباً تلتمع بيضاء بياضاً لا نصوعَ له، وأدناهم ذكاءً على الإطلاق تكسوه ثيابٌ متنوعة الألوان. غير أن الملائكة في علياء السماء القصيّة لا تدثّرهم أيّ ثيابٍ البتّة».
كل هذا (على الأرجح) ما عاد يُجْدي.
ضمَّ غوستان ديفيد سون، في عمله اللبيب معجم الملائكة، الكثير من الأنباء المتدوالة عنهم. هي ذي بضعةٌ من أسمائهم: الملاك Elubatel، الملاك Friagne، الملاك Gaap، الملاك Hatiphas (عبقريُّ الحُليّ)، الملاك Murmur (ملاك ساقط)، الملاك Mattro، الملاك Or (ملاكُ الذهب والشكّ)، الملاك Rash، الملاك Sandalphon (تناهِز قامته رحلة تدوم خمسمائة عام سيراً على الأقدام)، الملاك Smat. ويميز ديفيدسون شتّى صنوفهم: ملائكة التسبيح الذين يحوطون عرش السماوات؛ سادة الضجَّة البارعون وأرباب الصيحات المكرَّسون للمدائح؛ السعاةُ والرسلُ والكَتَبَةُ المترصّدون والوُسَطاء الأدِلاّء والمنذرون. إن معجم ديفيدسون كتاب ضخم للغاية؛ ففي ثبت مراجعه أُدْرِجَت قائمة تحوي ما يربو على مئة وأحد عشر موضوعاً.
وفي مقالٍ عنوانه « سيكولوجيا الملائكة»، (المطبوع سنة 1957)، دوَّن جوزف ليون أثرى التوصيفات بهاءً حول الوعي الملائكي الأوَّلي. يقول ليون بأن كل ملاك يحيط بعلمه سائر المعارف المتناقلة عنه هو وعن كل ملاكٍ آخر سواه. « ما مِنْ ملاك، منذ الأزل، استطاع أن يطرح سؤالاً، لأن التساؤل يتأتّى من حالة انعدام المعرفة السابقة عليه، كما إنه، بشكلٍ من الأشكال، يبيّن إن الملاك لا يَجهل عدم معرفته. إذ لا يجوز لأي ملاك البتة أن يكون فضولياً، طالما أنْ لا وجودَ لأي شيء قد يسترعي فضوله. إنه لا يقوى على الاستفسار. فمعرفته التي وِسْعُها كُلُّ الموجوداتِ القابلة لأن تُعْرَف، تجعل عالمَ المعرفة المتيسِّرة يبدو بالنسبة له، دونما أضأل شك، كنسق منتظمٍ من الحقائق، يتواجد برمّته أمامه، ثابتاً ويقينياً ومُلْكَ يمينه».
لكنّ هذا ما عادَ يُجدي أيضاً.
إنها لِمن الغرائب التي تكتنف الكتابةَ عن الملائكة، أن يخلُصَ المرء، في جُلّ الأحايين، إلى الكتابة عن البشر. فالموضوعان توءمان. وهكذا يستنبط القارئ، في نهاية المطاف، أن ليون، مثلاً، لا يكتبُ في الواقع عن الملائكة، وإنّما عن الفصاميّين - أي إنه يُمعِنُ متفكّراً في شؤون البشر عبر استحضاره للملائكة. وتنطبقُ هذه الخلاصة، صحيحةً في العموم، على الكثير من الكتابات الأخرى ذات الصِّلة بهذه المسألة؛ وهذه نقطةٌ نحسب أن الملائكة لم تفُتْهم ملاحظتُها، عندما راحوا يعيدون النظر في علاقاتهم المستجدَّة مع الكون، عندما كان نظراؤهم (أيجمَعُ الملاكَ شديدُ شبهٍ إلى طائر كتزالٍ أم إلى إنسانٍ؟ أم لعله يتماهى والموسيقى؟) ما يزالون في حيرةٍ من أمرهم.
ولنا أن نمضي قدماً في افتراضنا مسعى البعض ليضعوا تعريفاً للملاك، مستمدَّاً من وظيفته. فالملاكُ هو ما يقومُ به الملاك. وهكذا، لم يجدوا بُدّاً من استقصاء إمكانيات قواعد جديدة لهم (ولا تنسوا أن هذا محضُ تأمل تعتوره شوائب جمة). بعدما انصرمَ على الملائكة في نُواحِهم مئات ومئات من وحدةِ القياس التي يستخدمونها في حساب الزمن، جالَ بخاطر ملاكٍ أن يفترضَ إنَّ النواح هو شاغل الملائكة الأوحد أبدَ الدهر، على منوال التهليل والتسبيح من قبل. سيكون الصمتُ، هذه المرة، هو نمط هذا الحِداد الباكي. على النقيض من صداحهم السالف المستديم بالترانيم الممجِّدة التي شغلَتْهم كلّياً فيما مضى. لولا أن الملائكة ليسَت صامتةً بطبيعتها.
ثمة فرضية أخرى مغايرة، فحواها أن الملائكة يكرّسون الفوضى. فقد كانت هنالك خمسةُ براهين كُبرى على وجود الفوضى. ويأتي في مقدمتها غيابُ الإلهة. وليس بالعسير تسميةُ البراهين الأربعة الأخرى. سينهمك الملائكة إلى الأبد، في الانشغال بالتعريف والتأويل (هذا إذا أنجزوا هذا العملَ على نحوٍ يُرضيهم)، مثلما انهمك بالمهمّة المناقضة علماءُ اللاهوت من بني البشر. بيد أن الملائكة لا يتوافرون على هذا التوقِ الجارف نحو الفوضى.
وإذا استرجعنا المقترحات التي فكّر بها الملائكة مليّاً، لوجدنا الرفض أشدَّها خطورةً كونه الأشدَّ تطرّفاً - فذاك معناه أن يجرّدوا أنفسهم من الكينونة، لا من الوجود فحسب. إن الوقار المهيب الذي سيسبغه على الملائكة هذا التمرّدُ قد يتأوَّل كمظهر من مظاهر الخُيلاء الروحية. كان الرفض مرفوضاً.
كانت ثمة مقترحات أخرى أعمقَ تعقيداً وحذاقة، غير أنَّ أيَّاً منها لم يُضاهِ الرفضَ في طغيانِ سحره.
لقد شاهدت ملاكاً مشهوراًَ على شاشة التلفاز. شعَّت ثيابه كأنها مقصوصة من نور. كان يتكلم عن الحال الراهنة التي آل الملائكة إليها. فَهُم، قال، يشبهون البشر في بعض المناحي. وأحسستُ بإشكالية العبادة كامنة في صميم كلامه. قال إن الملائكة قد جرّبوا إلى حينٍ أن يعبُدَ أحدهم الآخر، على غرارنا نحن، بيد أنهم جزموا بأن هذا الأمر، في ختامِ تطوافهم، «لا يروي الغليل». قال إنهم يُواصلون مسعاهم، باحثين عن عقيدة جديدة.