قراءة (عالم ـ ثالثيّة) لرواية «حفلة التَّيس» الأرواح الشريرة للديكتاتوريين المداريين
• ترجمة: بسام رجا
فرض الظهور المتألق لرواية ماريو بارغاس يوسا «حفلة التيس» موضوعاً «أدبياً»، وجعله حديث الساعة إذ أنه يطال تقليداً طويلاً ألا وهو، علم أمراض السلطة، الأمر الذي تجلى في واحدة من الترجمات المحببة لدى الكتاب حول الديكتاتورية المدارية. وصار من الممكن طرح سلسلة من القراءات المتتالية أبعد من الفظائع التي يعاد خلقها في صفحات العمل الأدبي، وكذلك الرطوبة الشديدة التي تلوث أفعال من يعيشون سجناء السفالة من تأثير التيس تروخيو . وأولى هذه القراءات النظر إلى العرف الذي تندرج فيه. ففي نقده الرائع تحت عنوان «سحر الطين» يقدم فرناندو رودريغيز لافوينتي التصوير الحقيقي لهذه الرواية في الطريق المرسوم من رامون ديل فاي انكلان في «طاغية الرايات» 1926، وميغيل أنخيل أستورياس في «سيدي الرئيس» 1946، وفرانسيسكو أيالا في «مدينة كلاب» 1958)، واليخو كاربينتير في عمليه الرائعين «الخطوات الضائعة» 1953 و«حق اللجوء» 1972، وأغوستو روا باستوس في «أنا الأسمى» 1974، وغابرييل غارسيا ماركيز في «خريف البطريرك» 1975، وأرتورو أوسلار بيتري في «قداس الأموات» 1976. ويطرح في تأملاته المذكورة أن واقع الحياة في الأنظمة الديكتاتورية المدارية لا يتجاوز الخيال وحسب، بل يمنحها شكل الاستيداع السحري للذاكرة. فالواقع يُزاح لينوب عنه ما بعد الخيال، حيث تفرض عملية التخيّل قانونها على الأحياء. هذه السلطة الخاصة للرواية ساعة تحديد تجربة واقع تصبح مدارية جداً، وأمريكية جداً، وهي كانت مدرسة من كريستوفر كولومبوس بحد ذاته. لقد وجه الأميرال بدءاً من عام 1493، رسالة الملوك الكاثوليك يروي فيها الأحداث التي جرت له عند وصوله إلى أرض العالم الجديد بهذه التعابير: أعتقد ويعتقدون أنني بهذه المواكب وهؤلاء الناس قد جئت من السماء وقد استقبلوني بهذا الإذعان (....) عند الوصول إلى أية بلدة يقفز الرجال والنساء والأطفال أمام البيوت يستحثون بعضهم: تعال، تعال انظر إلى أهل السماء. فالتأثير المطلوب والاستنباط الممكن لكلمة عن واقع معروف يؤيد كل البيان البلاغي لاكتشاف المداري حيث تسجيل ما هو عجيب، وما هو مذهل، وما هو بديع، يؤسس الشخصية أو المجاز الرئيسي. إذاً، إدراك ما هو بديع يؤسس الجواب أمام حالة فساد قصوى تربط الجمال المرهف بالفظائع الشيطانية.
إذاًَ الموضوع لا يتعلق بزمن محض مختلق نستخرج من محيطه الأصلي بشراً ومواضيع وشعوباً وتحديات وأفعال لنضعها في سياق نص أوروبي ملتبس، بل هو الإلغاء الكامل للسياق حيث الإنتاج الثقافي لما هو رائع يمتلك هذا الشرط. فالموضوع يجرب نوعاًَ من لحظة حرجة لعملية تنويم مغناطيسي، الأمر الذي يصنفه ميشيل سيرتاو كسرقة من الذاكرة، وضياع مؤقت للقدرة على صياغة المعنى.
ما هو عجيب يتجسد فيما بعد ليتموضع في مكان مستقل، ويتحول بشكل ملح إلى جاذبية مشتملة على السحر والقدرة على محاصرة الذاكرة وسحب إمكانية إسناد المعنى. وهكذا تنشأ حفرة عميقة تضعف الـ«هنا» للأنا، والـ«هناك» للآخرين وللأنا، مثلما تشير سارة كاسترو كلارين. في هذه الحفرة، في هذا العمق السحيق للفرق بين الـ«هنا» والـ«هناك»، وبين ما هو قبل، وما هو بعد، وبين أوروبا وأمريكا، في هذا الفراغ الذي يفرض على المواضيع التي تدرك الممارسة الدائمة للمسافة ينتج الخطاب الكولونيالي، السرد الروائي، بكلمات للناقد إدوارد سعيد، وينتقل إلى الخارج فقط من أجل العودة دائماً ومنذ لحظتها إلى نقطة البداية.
إن روايات المداريين الأمريكيين تولد مع الخطيئة الأصلية لخدمة عملية تخيل الواقع، ولعملية سترٍ بحجاب لكلمة فتح الديناميكية للعالم الجديد، من العالم القديم، حيث تظهر وظيفة المؤرخين المحتقَرِيْن من الروائيين المداريين للعثور من جديد على درب ما هو واقعي. إنها وظيفةٌ ليست سهلة مطلقاً، ولقد شرح إدواردو بوسادا كاربو في مقالة حديثة المذبحة الشهيرة لناقلات الموز عام 1928 والتي ألهمت «مائة عام من العزلة»، فبدلاً من أن تكون مذبحة فظيعة ومرعبة لثلاثة آلاف شخص كانت فصلاً من العنف السياسي الذي ربما لم يتجاوز عدد ضحاياه المائة فرد. لقد دامت مؤامرة الصمت التي فرضتها الأوليغارشية الكولومبية حول المذبحة هذه حتى عام 1967، الوقت الذي أصدر فيه ماركيز روايته الشهيرة حيث أنقذ الحقيقة التاريخية من خلال الخيال. وهنا من المشروع السؤال إذا ما كان عمل ماريو بارغاس يوسا قد عانى حظاً مشابهاً إذ على مدار عقود ترجمت رسمياً حياة الدوميناكنيين في ظل ديكتاتورية تروخيو في تخيلات الروائي البيرواني.
في سياق آخر يجب أن نقر بأن ميزة وطبع رجال الدرك المداريين قد شكلا حقلاً وفيراً للكتّاب. أسلاف الديكتاتوريين العسكريين، الزعماء الذين ولدوا في مجرى حروب الاستقلال وانتشار عسكرة المجتمع واللصوصية وقطع الطرق وحرب العصابات. واحد من أوائل هؤلاء، الأرجنتيني خوان مانويل دوي روساس (1829 ـ 1852) وهو غني ينتمي لطبقة الأشراف وقد حكم في أجواء من ملائمة الدبلوماسية بالرعاية والعنف يعدّ في رصيده الشرف المشكوك به أنه اخترع المازوركا (Mazurca) وهي أول جهاز أمن سياسي في العالم. أما الزعيم المكسيكي أنطونيو لوبيز دي سانتا آنا فقد ترأس بلاده سبع مرات ودفن ساقه التي بترت بقذيفة مدفع فرنسي في أجواء مراسم عسكرية. بينما زعم البوليفي ماريانو مليغاريخو (1864 ـ 1871) أنه قطع المحيط الأطلسي مع قواته سباحة لمساعدة نابليون الثالث في الفرنسية ـ البروسية والفنزويلي خوسيه فيزينتي غوميز (1908 ـ 1935) فقد بلغ كما خطط أن يموت في السابع عشر من كانون أول ـ ديسيمبر اليوم الذي انتقل فيه المحرر سيمون بوليفار إلى الحياة الآخرة.
بطبيعة الحال شكل ديكتاتوريو القرن العشرين في أمريكا اللاتينية ظاهرة نمطية بذاتها (Tipologia) بقيت ظاهرة للعيان بسبب الفساد النابع من داخل الذات. فقد كانت الديكتاتورية للعبيط بوليفار علاجاً يائساً لنظام سياسي مريض ولم تكن خياراً سياسياً مفضلاً بحد ذاته. وهكذا مرّ الديكتاتوريون المداريون ليكونوا دواءً لأكثر الأمراض، لكن في هذه النقطة يجب أيضاً استرجاع بعض التوازن النقدي المعين. «حفلة التيس» في أغنية الحرية في وجه الاستبداد تولد في تقليد انتقاد القديم للسلطة قدم الدرك ذاته. وهكذا يتحول المداري وشياطينه إلى مرآة معكوسة حيث باستطاعتهم تأمل سكان المناطق الدافئة. أما في خطوط عرض أخرى فتحجب ذاكرة الرعب بينما تسمح لنا، مرة أخرى، الرواية المدارية بطرد الأرواح الشريرة والسير نحو الحرية.
• عن مجلة LEER الإسبانية