خليل صويلح خليل صويلح

حين أعرنا حياتنا كاملة للتلفزيون!

الفاتورة الباهظة التي دفعنا حياتنا بموجبها للتلفزيون, جعلت وقائع الحياة اليومية مجرد ترجيع لحياة مستعارة, من دون أن نلتفت إلى ما يجري في مطابخ «الميديا» من مونتاج وتجميل لهذه الحياة.

يوماً ما, نخترع أبطالاً وهميين, يدافعون عن أوهامنا مدة ساعة ونصف أو ساعتين, لكن التلفزيون استعار حياتنا كاملة, على مدار الساعة, وقد نجح إلى حد كبير في إغواء مخيلتنا في تقليده. هكذا تحولت المعادلة إلى إجابة معكوسة, فبدلاً من أن يقلد التلفزيون أنماط المعيشة, تحاول الحياة اليوم تقليد التلفزيون, إذ يضع المتفرج العربي نفسه مكان البطل سواء في مسلسل ما, أم أغنية, أم نشرة أخبار, أم جائزة مغرية, ولعل حالة التماهي هذه بين المشاهد وأبطال الشاشة «العاديين» أسهمت في تخريب الحياة وأدت إلى فقدان القناعة في مجتمعات تعيش أزمة قيم واضحة, وعلى الرغم من أن التلفزيون حوّل النساء على نحو خاص, إلى سلعة للإعلان, إلا أن المرأة العربية عموماً بدلاً أن تحتج على هذه الصيغة الاستهلاكية, وجدت نفسها وسط العاصفة, تبحر في سفينة بلا ضفاف, وهي تقوم على أكمل وجه بتقليد ما تشاهده, وكأنها حقل تجارب في مختبر للأوهام, تختار أطعمتها من برنامج «طبق اليوم»، وتنتقي ثيابها من برامج «عروض الأزياء»، وعطرها من الماركات التي يعلن عنها, وكذلك مسحوق الغسيل ونوع العصائر المنعشة وحتى نوع المناديل الناعمة!

وكانت المسلسلات قد لعبت دوراً مؤثراً في نمط العلاقات الاجتماعية, سواء بين العشاق أو بين الأزواج, إذ عززت هذه المسلسلات رؤية لاواقعية للحياة, وخصوصاً المسلسلات التركية المدبلجة, وكأنها حياة حقيقية تجري أحداثها في الواقع وليس في مخيلة مؤلفيها.

في الأرياف السورية  شاعت أسماء بطلات المسلسلات التركية, بعد أن كانت الأسماء تخص الأبطال التاريخيين والزعماء.

من جهة أخرى تعرض الأطفال إلى أسوأ أنواع الحروب,عن طريق إغوائهم بعشرات الماركات من الأطعمة و«الشيبس» والألعاب.

هكذا وجد« المواطن» العربي نفسه بطلاً افتراضياً مؤجلاً, فهو على قناعة أكيدة, أنه سوف يربح يوماً «المليون»، أو«سيارة المرسيدس» وربما غسالة كهربائية, أو رحلة مجانية إلى إحدى الجزر البعيدة, وصارت حياته اليومية خاوية تماماً إذ لم يرممها بهذا النوع من الأحلام التلفزيونية, وهو لن يستيقظ من كابوسه الطويل إلا حين يعيش أحلام يقظة, تغذيها بطارية مخيلته التلفزيونية بعشرات المغامرات القابلة للتحقق, طالما أن فتى ما يتحول خلال أشهر إلى «ستار أكاديمي» العرب, ويقود عشرات الفتيات إلى الإغماء.

وبالنسبة للمواطن الأقل جنوناً, بات بإمكانه أن يحلم بقضاء ليلة في فندق خمس نجوم أو عشاء فاخر حول المسبح على أنغام أغنية  من مطربه المفضل,  وقد يربح ساعة ذهبية أو كاميرا ديجتال أو جهاز موبايل أثناء حفل العشاء, كل ذلك مقابل الإجابة عن سؤال تافه من موسوعة الجغرافية أو التاريخ.

وهناك كائنات أخرى أعارت حياتها بالكامل لأجهزة «الشات» وهي أحدث وسيلة للتعرف على الفتيات أو لإهداء أغانيه المفضلة إلى أصدقائه.

إنها إذن حياة من المسابقات الرابحة والبطولات المؤجلة, لكن ينبغي ألا نضع الحق كاملاً على سحر الشاشة, في ظل أزمات اقتصادية خانقة, يعيشها المواطن العربي اليوم, هي من قاده إلى  هذا النفق المظلم من الأحلام المؤجلة التي لا بد أنها سوف تتحقق يوماً ما و«إن غداً لناظره قريب», على يد فضائية ما, فالحياة في نهاية الأمر فرصة, تأتي مرة واحدة, وعلينا أن نقتنصها فوراً, وينبغي ألا نضيعها في التفكير وتأمل حجم الفاتورة الضخمة التي يفرضها هذا الواقع المرير!

آخر تعديل على السبت, 26 تشرين2/نوفمبر 2016 23:06