الصورة في استقبال الشهداء
هي الكاميرا والصورة التي تؤرشف الحدث، فكل ما يمر يسجل ويحفظ في الذاكرة المرئية، الذاكرة التي زرعت فينا إحساساً بلون وشكل حياة من مروا ورحلوا. اليوم تعود الصور من جديد صور من الماضي والحاضر ليتقاطعا في لحظة الحدث الذي انشغلت ببثه معظم الفضائيات التلفزيونية.
قدوم رفات الشهداء هو الحدث الأبرز في الصورة التلفزيونية الإخبارية، من بعيد أنت مشاهد خارجي ترى صورة الجموع الغفيرة، نثرات الأرز، بتلات الورد، والسكاكر المغلفة، تحيي جثامين الشهداء في صورة عرس الشهادة المنتظر، تستذكر بعضاً من أغاني الثمانينات.
شوارع المخيم تغص بالصور شهيدنا الذي تكلم فأنطق الحجر.. في كل بيت عرس ودمعتان.. ميعادنا في القدس مهما نعاني.. عاد كل شي فجأة الأغاني وصور من رحلوا، الذين تركوا وراءهم استفهاماً من نار يكوي صدور أمهاتهم عادوا اليوم إلى أهلهم، ليحيوا من جديد في بضع ساعات من نهار الانتظار الطويل عادوا ليستنطقوا الذاكرة، ويكتشفوا مكانتهم، عادوا فأضاعوا من الآخرين فرصة انشغالهم الحثيثة بإطفاء جذوة حب فلسطين وحلم العودة، عادوا فأعادوا ما فُقد من عشرين عاما، عادوا بصورهم وملصقاتهم في الشوارع، تقف أمام الصور تعيد اكتشاف حكايتهم، تراجع حسابات الزمن، يستوقفك أكثر من سؤال فتصمت لتبلل روحك من جديد بقطرات صباحات أحلام من ورد العمر، تصمت حين تملؤك الغبطة بقدومهم، وحضورهم الأقوى من كل المارقين على الشاشات، عادوا إلى الشاشات ليمروا من الوقت، من الذاكرة، من الحزن ولكنها الصورة كعادتها عامة، زووم آوت، دائما من بعيد، تظهر تبرق في لحظة الحدث ولكنها دائما تنسى الغياب والتماهي في التفاصيل، الكاميرا الفوتوغرافية والكاميرا التلفزيونية سواء، يتواطآن في رسم ملامح المشهد العام، فرح وعرس جماعي دموع، زغاريد، أكف متلاصقة، هتاف وآمال للمستقبل، ولكنها كعادتها آنية، تنسى أن تغرق في تفاصيل الحكايا، تغيب عن جرح دفين لأم محمد وابنها محمد عدنان القطرنجي الذي عاد شهيدا بعد رحلة أمل عاشتها الأم بالدقائق والثواني لأكثر من عشرين عام، أثناء الصلاة وبعدها يتراءى محمد أمامها فتتلمس طيفه وتنتظر لحظة اللقاء، تحلم وتحلم، ولكنه اليوم 23-7-2008 انطفأ الحلم فجأة وماعاد محمد حياً، لقد عاد رفاتاً، أم محمد تعزي نفسها فتقول إن عودته لا تقل عزا وافتخار عن عودته حياً، ولكنها تعود فتقول إنها عندما أدركت هذه الحقيقة شعرت أن قلبها قد اقتلع من جسدها وإلى الأبد. أما أم وائل شقيقة عصام أحمد أبو الرائد، الأخت الحميمة لأبي الرائد الذي غاب منذ اجتياح 82، تحمل صورته تتنظر خبراً شقياً، فحتى اليوم لا تعرف العائلة مصيره الحقيقي، هل هو حي.. شهيد.. أسير.. مفقود..؟ ولكنها اليوم وقبل وصول جثامين الشهداء بلحظات تتمنى أم وائل وشقيقاتها، أن يعود الأخ أبو الرائد ولو نعشاً ليفرحوا بعودته ويقيموا له عرس الشهادة من جديد، أم محمد وأم وائل وغيرهما المئات ممن احترقن بصمت طوال تلك الأعوام التي مضت، احترقن بصمت دون أن تتسلل الكاميرا الشاهد، ودون أن تكون هناك بزووم إن في تفاصيل الحياة، لم تدخل الكاميرا إلى وجع أباء ماتوا بحسرتهم الشديدة على أمل وانتظار عقيم..
هي الكاميرا تجول من بعيد ترسم مشهدها العام في الصور والشاشات وتمضي، أمام ليالي الأمهات الشقيقات الأشقاء الأحبة والآباء، فسوف تركن في زاويا عميقة من زوايا القلب، سوف تركن في عذابات يومية لن تستطيع إحصاءها شاشات العالم التي تماهت مع والدتي الأسيرين الإسرائيليين، وتناسوا عن قصد مئات بل آلاف من أمهات فلسطينيات لبنانيات وعرب غاب أبناؤهم زمنا وعادوا من جديد.