مطبات: نلتقي.. في المحطة القادمة
كما كل المشاكل التي لا حل لها، كما كل الأشياء المعلقة على مشجب الإمكانيات المادية والبنية التحتية غير الجاهزة، وتحت عنوان الحلول المعاقة وبانتظار الحل النهائي، تبقى مشكلة النقل معلقة بانتظار معجزة من السماء يمكن من خلالها لمواطننا أن يتنقل أينما شاء بواسطة جناحين أو زلاجة دون أن يحتاج إلى واسطة نقل عامة.
منذ أن قررت وزارة النقل، ومعها فريق المقترحين من بقية الجهات نقلنا من عالم (الميكرو باص) وعذاباته، ومنذ أن أدخل إلى رأسها بأن واسطتها القديمة (باص النقل الداخلي) صار من زمن ولى.. دخلنا في حقل تجارب لن ينتهي إلا بإغراق دمشق بالسيارات والدخان، وأن يصبح المواطن طائراً لا مكان له على هذه الأرض.
جربت فينا الوزارة باصها الداخلي لأكثر من عقد، تدلينا من الأبواب والنوافذ، وامتهن المفتش كرامتنا لأننا ركبناه دون تذكرة، تدافعنا في دهاليزه، أصابتنا أمراضه النفسية بعقدة (الزلزلة)، واقتتلنا بسبب تفشي التحرش والنشل، تضاربنا بالكتب والأكياس، وخرجنا من تجربته ونحن نمتلك مواهب حياتية في التعلق والصبر والأرجحة والطيران.. والهرولة.
التجربة السورية الثانية جاءت على ضيق في المكان وأكثر في الوسيلة، أعطت الحكومة أذنها للقطاع الخاص، وجاء الخلاص على أيدي السرافيس، والتي تندر واحتار السوريون في تسميتها، الجرذان البيضاء ملأت الشوارع، باع من لديه ما يبيعه من مواطنينا في الداخل لاقتناء الاستثمار الجديد، تحول السرفيس إلى مشروع عائلي، ثم من استطاع أن يجمع من أصدقائه ثمن سرفيس أسهم في شراكة لا تنتهي، الفلاحون باعوا معظم أراضيهم، الأزواج أخذوا أساور نسائهم على أمل أن يعيدوها مشغولة من البلاتين والزمرد بعد نجاح مشروع السرفيس، حتى من اغترب قرر أن يعود على الأقل بماله إلى الوطن كرامة لمشروع العمر، دخل الجميع في المشروع الكبير إعادة الحياة للنقل المحترم، لكن النتائج كانت على غير المأمول... وضاعت الأحلام والأراضي والأساور.
التجربة الثالثة جاءت استجابة لقضايا فرضتها نتائج التجارب السابقة، ثلوثت المدينة الأقدم والأجمل والأعذب، صارت دمشق تغفو على سحابة سوداء من الكربون والسواد، وتنادت وزارة البيئة وأصدقاء دمشق والأمراض الصدرية لإيجاد حلول لأزمة التلوث أولاً، وأزمة النقل التي لم تحلها الجرذان التي تنفث السم ثانياً، فلمعت أفكار جديدة في عقل مدبري نقلنا المتعثر، النقل على الغاز، مشروع المترو، نقل الكراجات خارج المدينة كالبرامكة وسواه، ومن ثم نقل خطوط السرافيس إلى خارجها، وولد مشروع الباصات الصينية بألوانها وزينتها وحجمها الذي يتسع للمواطنين المنتظرين على حافة الحلول مصيراً لأقدامهم التي تخدرت من المقاعد الصغيرة المصنعة لياباني أو آسيوي.
صار لدينا كراج كبير يدعى السومرية، تذمر المواطنون في البداية ثم تعودوا كالعادة، وخرجت السرافيس من عمق المدينة وصارت تدور حولها، وشق الأخضر الصيني طريقه في قلب المدينة، وامتد إلى الريف، وتذمر أصحاب السرافيس من تخفيض أجرتهم ومن المنافس الجديد، ومن ثم تصالحوا مع الواقع كالعادة، لكن مشروع نقلنا السعيد كان بحاجة إلى بعض الرتوش.
من جديد أعطت الوزارة العتيدة وبعض عرابي مشروع النقل المتعثر أذنها للقطاع الخاص، ألم تكن من خطة تنظيف المدينة الأقدم والأعذب والأعرق تنظيفها من الجرذان البيضاء، جاءت الفكرة في مكانها، في الجعبة حلول جاهزة، دخلت باصات الشركات الخاصة بألوان جديدة، ألوان أكثر من جميلة، الأحمر والأزرق من الألوان التي تحتاجها مدينة لا لون لها، وبالأكثر يغطيها لون واحد هو.. لون التلوث.
الجرذان ستعود إلى جحورها مع الأراضي والأساور وأموال الغربة، والباص الصيني الأخضر ربما يسير على المصير نفسه، والباصات الملونة بدأت دخولها المهيب بهدوء وقوة، ريثما يحل مشروع النقل على الغاز في سيرة النقل السوري، أما نحن الجموع التي تنزل وتصعد من وسيلة إلى أخرى، ومن تجربة إلى أختها.. مجرد ركاب عابرين إلى المحطة القادمة.