حدث في معرض الرسم
الفن التشكيلي والنحت إضافة إلى فن الحفر على المسطّحات أو «الجرافيك» وعلاقة هذه الفنون ببعضها، وما طرأ عليها من تغيّرات وتحولات، بعد هيمنة التكنولوجيا وظهور ما يسمى بالفن الرقمي.. هذا ببساطة موضوع تحقيقي الصحفي الأول الذي تورطت به. مما يعني حتمية القيام بجولة استطلاعية تشكيلية للوقوف على رؤى أهل هذه الفنون وآرائهم بهذا الموضوع ..
وفي أحد «الجاليريات» التقيت بفنان تشكيلي، شاءت المصادفة أن يكون سورياً لحسن الحظ (ليس تعصباً ولكن الدم بحنّ كما يقولون). المهم تكلمنا في الموضوع وللأمانة كان حديثه بالغ الانسيابية والوضوح والعمق، خاصة انه لم يزجني في متاهات الفنانين ورؤاهم الميتافيزيقية الماورائية، فأنا بصدد القيام بتحقيق صحفي ولست بصدد تأليف كتاب «غرائب وعجائب». ولما انهينا الحوار وهممت بالمغادرة قال مودعاً «أرجو أن تأتي غداً لحضور المعرض .. سيكون متنوعاً»، فقلت: «طبعاً سآتي.. بكل سرور» .
اتصلت بصديقتي ودعوتها للذهاب معي، فرحبت بالفكرة، باعتبار أنها مناسَبة جيدة للتخلص من رتابة القانون ومتاعب المحاماة .
لحظة الوصول كانت باهرة، فالإضاءة الموزعة بذكاء واحترافية عالية، أضفت على اللوحات والمنحوتات والحروفيات حركيّة تكاد معها تشعر أنها ستنطق. لكن البصمات التجريدية والسوريالية والوحشية وسائر المدارس الفنية الأخرى لم يقتصر طغيانها على معروضات «الجاليري» فحسب، بل وخلال تجوالي في المعرض لمحت لوحة تسير!! فأمعنت النظر وثبتّ عدستيّ جيداً كي أتبيّن حقيقة الشكل الذي رأيته. فاكتشفت لاحقاً أنه أحد الرسامين المشاركين في المعرض، كان شكله عجائبياً لم أتخيّل في حياتي أنني سأراه في الواقع. بدءاً من شعره الطويل المجعّد الذي يصل إلى ما تحت الكتفين، ولحيته السوداء متوسطة الطول وصولا إلى ملابسه التي تخيّلت للوهلة الأولى أنها إحدى لوحات سلفادور دالي بعد الخياطة!! غير أن رائحة عطره كانت نفّاذة، فأنا صاحبة أنف يتتبّع الروائح الجميلة إلى ما لانهاية، ولن أخبركم أنني قد أسير في أثر عطر إلى جهنّم .
لكن وفي غمرة اندهاشي دَنا مني الفنان الذي دعاني، صافحني وصديقتي، وبدأنا نتجاذب أطراف الحديث التشكيلي (حصراً). وبغتة اشتمّ أنفي تلك الرائحة آتية من الخلف، فالتفتُّ وإذا به يقف خلفنا !! (واوووو) كانت مناسَبة للتعارف.. وتعارفنا.. كان سورياً أيضاً (لا ادري لحسن الحظ أم لا، لكن بشكل عام الدم بحنّ)، سألني مباشرة: «أعجبكِ المعرض؟؟»، فأومأت برأسي إيجاباً إذ كنت لا أزال تحت تأثير عطره المخدّر، وخليطه التشكيلي غير المتناغم. لكنه حاول انتزاع الكلام مني ولو عنوة، فسألني: «ما هي اللوحة التي أعجبتكٍ؟»، رديت بصدق: «لكل لوحة موضوعها الذي تتفرّد به وكل لوحة تحكي عن حالها لحالها، ولكن أحببت هذه مشيرة إلى لوحة بيضاء شتوية عبارة عن ثلوج تندف على بيت قرميدي عتيق متهالك.. فردّ بانفعال: «فقط!!».. نظرت إلى صديقتي أن خلصيني من هذا المأزق. فجاوبت متداركة: «نور تحب الشتاء والثلج ربما لهذا السبب أعجبتها اللوحة!!».
لكن الصدمة كانت هنا.. أي حين وقف الفنانان أمام لوحة عظيمة، بالغة العمق في دلالاتها وإيحاءاتها.. بعيدة الغور في استنباطها لمكنونات الجسد والروح والعلاقة المتداخلة فيما بينهما، موغلة في البحث عن أسرار الوجود واللاوجود.. كانت عبارة عن خربشات دائرية باللونين الرمادي الفاتح والرمادي الداكن تتوسطها دائرة صغيرة حمراء.. وقفا أمامها مندهشين، مصعوقين، مأخوذين في غياهبها وزوبعيتها الكثيفة.. «شو هالفن؟؟».. «شو هالإبداع ؟؟؟».. «شو هالمستوى».. «رائعة بكل المقاييس».. حتى بالمقياس الأرسطوطاليسي!! نظرت إليّ صديقتي ببلاهة، مستفسرة لعلها تعثر معي على جواب شاف، فهمست في أذنها: «شو بفهمنا بالفن نحن؟؟»، وغرقنا في الضحك. وفيما نحن نغرق تقدّم باتجاهنا أحد العاملين في «الجاليري» وقدّم لنا الشامبانيا.. فأخذنا على خجلٍ، وبقيت الكؤوس في أيدينا ونحن نستمع إلى معاني هذا الفن الطليعي الذي جسدته تلك اللوحة بما تشبعت به من مؤثرات تراجيدية تعبيرية تحاكي الوجع الإنساني السرمدي ..
غير أن صديقتي ضاقت ذرعاً بهذه الحالة الإبداعية وبدأت تنفخ في الهواء، وقالت بصوت خافت: «تعالي نتفرّج على ركن المنحوتات والحروفيات».. فتزحزحنا من مكاننا بخطى بطيئة، وتسللنا الى ركن النحت. بعد قليل رآنا الفنان صاحب الشكل الماورائي، فأتى إلينا وراح يحدثنا بحركات انفعالية كيف يصطاد «المَلَكة» ولا يتركها تضيع.. فقال بصوت مرتفع بعد أن احتدت قسماته: «إن أتت أمسكها بشعرها كي لا تهرب».. فتجمدنا في أرضنا، وبشكل عفوي وتلقائي وضعت يدي على رأسي كي أحمي شعري من قبضته.. كل ذلك وكؤوس الشامبانيا في أيدينا لم تمسسها شفتانا .
أخبرنا أيضاً أنه يكتب الشعر ولديه هوايات متنوعة، وقد طلبت منه إحدى المغنيات مشاركتها في تصوير «فيديو كليب» لكنه أبى!! كدت أسأله هل عنوان الأغنية «الحب أعمى»؟؟ لكنني ضبطت لساني.. وبغتة ودون أي مقدمات أو تلميحات قال لي كاشفاً عن ميوله السادية: «يلزمك الكثير من الضرب، مازلت في أول الطريق»، فنظرت إليه مصدومة، مطالبة بالمزيد من الإيضاح لكنه لم يعر نظرتي المستنكرة أية اهتمام ...
الرحمة السماوية هبطت حين جاء أحد النحاتين ليسلّم علينا، تحدثنا معه قليلاً.. ولما وجد صديقنا العجيب ما يلهيه عنا قالت رفيقتي: «مطولين بهالعصفورية نور؟».. أي مستشفى المجانين باللهجة اللبنانية ..
ودعت الأصدقاء الجدد في «الجاليري» لاسيما الفنان الذي دعاني. وانصرفنا.. تأبطت ذراع صديقتي وانحدرنا نزولاً من شارع الحمرا إلى المنارة حيث مقهانا الأثير. جلسنا إلى طاولة قريبة من البحر وناديت النادل «شاي الله يخليك»..