مطبات: الصيد في المطبوع

اعتقدت حتى وقت قريب أننا تخلصنا من تلك الحقبة، ومن ذلك الإرث البغيض الذي تكون بغياب الإعلام الحقيقي، وأننا على بعد خطوات من إنجاز إعلام يحترم الناس والمجتمع، ولا يغرر بأحد.
جاء السماح بإصدار الصحف الخاصة كفرجة وسط زحمة طالبي العمل، وقلة الوسائل الإعلامية المتاحة لهم، وأمنية عند الكثيرين لسماع صوت جديد ومختلف عن الأصوات التي كانت تغرد وحيدة في الساحة، وباب رزق لأغلب الإعلاميين السوريين الذين كانوا يشكون من رواتبهم القليلة التي لا تسمح بأكثر من لباس رسمي واحد في السنة، ومحفظة بالية اعتادت عليها أصابع اليدين.

يتذكر أغلبنا تلك الحقبة التي عاشتها الصحافة الخاصة الوافدة، من جارنا المنفتح وصاحب التجربة لبنان، وصولاً إلى خلف بحرنا المتوسط اليونان وقبرص.. هناك ما وراء البحر التراخيص المفتوحة ومكاتب الخدمات الصحفية، المجلات المنوعة والمفتوحة، والاستثمار المديد، يجرب مستثمر ويخسر، ويجرب آخر لموعد ليس بالبعيد ثم يتوب بعد أن يلم ما يمكن، يطبع ما يحتاجه المعلن بعد أن يحصل على موافقة التداول بعد ثلاثة أعداد تجريبية، أما عن الطباعة خارج الوطن فلها حل عند أصحاب المطابع الذين يربحون على حساب مغامرة مخالفة القانون، ولا ضوابط تحمي العاملين فيها من (نصب) المستثمر، صحافة لا تعمل إلا بعد أن يعد المستثمر الإعلانات التي تؤمن ثمن الطباعة، ورحلة إعداد المطبوعة ومصاريف سهراتها، وثمن (برستيجه) في مطعم العراد أو القصر على طريق الربوة، وثمن السراويل الضيقة و(التنانير) القصيرة لمجموعة الفتيات العاملات في جمع الإعلانات مهما تكن.
في ظل هذه الخرائب المخالفة يعتاش الطفيليون، نصّابون ومخبرون وبعض أنصاف المثقفين، وبعض المثقفين ممن لا تعنيهم سوى الليرات القليلة وبعض الكرامة، فلا مانع من العمل مع أمي أو نصف أمي مقابل خمسة آلاف في الشهر، ولا مانع من أن يعمل بعض خريجي اللغة العربية كمياومين في تدقيق لغة المطبوعة، وبعض الصحفيين في إضفاء بعض الشرعية على عملها.
الأشد وطأة وأذى من بين الطفيليين، أولئك الذين يرتزقون من جمع الإعلانات، حتى أن بعضهم افتتح مكاتب صارت تقدم خدمة مأجورة لهذا العدد الكبير من هذه المطبوعات، أما من يأتي بها فمن أماكن السهر نفسها، مطربون من الدرجة العاشرة، راقصات ببطون منتفخة، وسهارى يعملون بالتجارة والممنوعات، بالإضافة إلى رؤساء مجالس بلديات وقرى صغيرة يتباهون بإنجازاتهم في تعبيد الطرقات وإنارة الشوارع ومشاريع الصرف الصحي أمام المحافظ ومن نفقات بند الإعلام، ولكن الخبطات الكبرى تأتي من الأعداد الخاصة التي تنجز في فترة المناسبات وما أكثرها، وبانتهازية مرعبة، والذي يرى نفسه (شاطراً) يمكن أن يفكر في الطيران خارج الوطن عبر مراسلة السفارات وصنع ملفات عن البلدان الصديقة والشقيقة.
ظننا لبعض الوقت أننا خرجنا من عباءة مستثمري الصحف، وأن المتاح مشروط باحترام الكاتب والمتلقي، وأن زمن الصحفي المستأجر لتجاوز عدد من مطبوعة قد ولى، وأن زمن (هبيشة) الإعلام قد ذهب إلى غير رجعة، وأننا صرنا نختار بين مكان وآخر، وأن الذين يتبوؤن اليوم مناصب إدارة المطبوعات من جيل يعرف ماذا تعني الكلمة، ومن هو الكاتب، وأن الأجور ليست بكم الكتابة أو(بالشبر)، لكن بعض المطبوعات التي تظهر على ساحة الإعلام لا تبشر بذلك، بل تعيدنا بقسوة إلى الوراء، ففي أقل من ثلاثة أشهر ظهرت مطبوعتان باسمين مختلفين ولكن بعقلية زمان نفسها، وصور زمان، ورجال ينتمون بعقلهم إلى زمان كنا اعتقدنا أنه رحل.
اللقاءات نفسها، المطربون، الأماكن، اللغة، المناصب الإدارية المختلقة لابتزاز أسماء البعض وشهرتهم، طابور من المحررات والمحررين والمصورين وأصحاب صالونات التصوير، صاروا بجرة قلم صحفيين ومصورين صحفيين بينما يبحث خبراء مهنة التصوير الصحفي عن عمل.
إنها دعوة مفتوحة لوزارة الإعلام بإعادة النظر بوجود هؤلاء.. لأننا لا نريد العودة للوراء.

آخر تعديل على الأحد, 21 آب/أغسطس 2016 17:47