جهاد أبو غياضة جهاد أبو غياضة

ممدوح عدوان.. دون كيشوت الثقافة السورية

ربما لم يكن من المفاجأة في شيء أن يموت ممدوح عدوان متأثراً بمرضي القلب والسرطان، وهما مرضان يؤدي تفاقم كل منهما إلى الموت حكماً في عرف الطب، ولكن المفاجأة كانت في قدرة هذا المتمرد، النزق، الحالم، الساخر.. على قهر جملة أمراض كابدته طوال سنين إبداعه، وحتى آخر دفقات روحه المجلجلة، كالإهمال، والتنكيل، والإبعاد عن الوظيفة، والتهميش، والمضايقات، فضلاً عن المتابعة والمراقبة اللصيقة التي كانت (تترصد) أفكاره و(تسهر عليه) في إبداعه، وربما كان مجموع كل ذلك؛ السبب الأحق والأساس في موت هذا العملاق المتعدد المعجزات.

لست أدري إن كان قد فكر بذلك حين ترك بلدته «قيرون» في منطقة مصياف ليلتحق بقسم الأدب الانكليزي في جامعة دمشق، وهو القائل في مجموعته الشعرية «وعليك تتكئ الحياة»: «دنا وقت الترجل عن جراحي/ أنل عيني إغفاءً بحضن الموت/ قد أضناني السفرُ».. أو ربما قد تعب فعلاً من السفر الطويل وحروبه، هو وأبناء جيله من مؤسسي المشهد الثقافي السوري الحديث أمثال: علي الجندي، محمد الماغوط ، سعد الله ونوس، نزيه أبو عفش. ومن أصحاب المشاريع الثقافية الوطنية والإنسانية الهموم والرسالة والوظيفة، وجيل ما بات يسمى بـ«جيل النكبات والهزائم» التي لحقت المشروع القومي التحرري العربي والقضية الفلسطينية؛ الذين تصدوا وعلى رأسهم عدوان، لشعور الإحباط والهزيمة النفسية، وقدموا محاكمات نقدية للعقليات السلطوية الخطابية التي أدارت الحروب، والمشروع القومي عموماً في ذاك الزمن، وجلبت الهزيمة.
 فمنذ «الظل الأخضر»، وهو عنوان الديوان الشعري الأول للراحل (صدر عام 1967 في عام نكسة حزيران)، وعدوان (يربي الأمل) وينافح عن مشروعه الوحدوي من خلال منجزه الأدبي المتعدد الأجناس. شعرياً عبر مجموعاته: «تلويحة الأيدي المتعبة»، «الدماء تدق النوافذ»، «أقبل الزمن المستحيل»، «أمي تطارد قاتلها»، «يألفونك فانفر»، «لو كنت فلسطينياً» «كتاب الموت»، ومسرحياً كـ«المخاض»، «محاكمة الرجل الذي لم يحارب»، «ليل العبيد»، «هاملت يستيقظ متأخراً»، «زنوبيا تندحر عداً»، «حكي السرايا»، «القناع»؛ أو روائياً من خلال روايتيه «الأبتر» و«أعدائي»، أو من خلال عشرات الكتب كـ«نحن دون كيشوت»، «حيونة الإنسان»، أو بترجماته الكثيرة من التراث العالمي وأهمها «الإلياذة» لهوميروس التي أعطاها نفساً جديداً، أو أعمال هرمان هسه، أو كتاب «تلفيق إسرائيل التوراتية» (تأليف كيث وايتلام).. إضافة لبحوثه النقدية في الشعر والمسرح. وكثيراً ما اندفع إلى الكتابة الدرامية حين كان يضيق عليه المسرح الشعري، وهكذا قدم أعمالاً تحمل الكثير من الهموم الإنسانية والاجتماعية، وحتى التساؤلات الحضارية كـ«الزير سالم»، وآخرها هذا العام، وبعد وفاته، مسلسل «الدوامة». لكن الأهم كان من خلال تواصله المباشر مع نبض الشارع وهموم المواطن البسيط عبر المقال والزاوية التي كان يكتبها في الصحف والمجلات.
 وشعرياً وهي الميزة الأساس لإبداعه، حملت أشعار ممدوح عدوان رسالة ومشروعاً شعرياً، فهو الشاعر الذي ظل ملتزماً تجاه قضايا قصيدة الرواد في الشعر العربي الحديث؛ آخذاً على عاتقه أن يتواكب إنتاجه مع مقولات الحداثة ومع الأشكال الشعرية الجديدة تقنياً ولغوياً، مما جعله أحد مؤسسي الشعر العربي الحديث. ففي شعر ممدوح عدوان تتجلى العلاقة البنيوية بين الشاعر وهواجسه الشخصية من جهة، وهموم وطنه العربي الكبير، ولذا هيمنت الغنائية التحريضية السجالية على لغته الشعرية حتى في مسرحياته.
ومن المفارقات الجميلة أن شاعر السخرية والألم الآخر، الراحل بعده محمد الماغوط كتب قصيدة عن عدوان، كانت بمثابة تكريم مبكر له. منها: «أريد خزعة من رئتيك وجبينك وأحزانك../ إن نسيجها أكثر متانة ومماطلة من قلعة مصياف وجبال دير ماما/ وأكثر فطنة وثقة من أعلام الغزو في الظلام./ وأنا واثق بأنك ستزهر من جديد كالوراقة، وفي عز الشتاء».
ورغم ذلك هو أقل الشعراء حظاً في الكتابة عنه وعن منجزه في حياته، فالإبداع عنده كان موقفاً وقضية لا شهرة وترفاً، فما من قضية أو هم عربي إلا وعبر عنه بصدق وحِدة تصل حد الصراخ، لذا اتهم بأنه مولع بالصراخ لكنه يقول: «أنا أصرخ ويجب أن تبقى لي هذه الحرية، الموجوع الذي لا يصرخ هو ميت.. وما يسمونه صراخاً هو ما أسميه لمس المواجع.. لا أستطيع أن أمسح الشعر والخد وأنا أدعي أنني أعالج طعنة في الخاصرة».
وعن عظمة هذا الرجل يقول المفكر الكبير صادق جلال العظم: «ممدوح عدوان أفضل مثال عن جيل الستينيات.. ما من مبدع جسد في حياته، وجسد في حيويته جيل الستينيات كما جسدها ورمز إليها ممدوح عدوان بكل كيانه.. إن كان ذلك بالنسبة لحداثة الشعر، أو نقمة النقد، أو طليعية الأدب، أو جدية السجال، أو وطنية الموقف، أو فهم الاطلاع».
رحل ممدوح عدوان ولم يستسلم رغم كل الانكسارات والخيبات، ورغم ما حاق به من ظلم ذوي القربى قبل المرض. مات وهو يقول:«كل إنسان يخاف الموت، ولكن هذا لا يشغل تفكيري كثيراً، فالموت لا يعني لي سوى توقف مشاريع. أنا أخاف أن أموت قبل أن أكتب كل ما برأسي، وأحب الحياة ومتعلق بها، لكن أحس كأنني أتفرج على شيء في الحياة، لكنه شيء غريب!»
 وربما لأنه أدرك كنه هذا الغريب في «أعدائي» و«حيونة الإنسان» رحل .. أوليس القائل: «يألفونك فانفر».