«الكوفية».. الرمز النضالي المستمر
في السياق التاريخي لحياة البشر تتمحور بعض الأشياء وتتفاعل على اختلاف ماهيتها لتتحول رمزاً تميز الشعوب أو الجماعات البشرية وطابع حياتها. هذه الرموز هي بالأصل مستمدة من وحي الواقع المعاشي للبشر أو عقائدها الدينية والفلسفية، وكثيرة هي الأمثلة على الترميز لجماعة معينة: التنين في الصين، رقصة السامبا في البرازيل، المنجل والمطرقة للشيوعيين... أي أن الرمز هو ما تواتر على استخدامه واستعماله جماعة من البشر لفترة زمنية، حتى ميّز الطابع العام لتلك الجماعة، وأصبح عنواناً للتمايز عن الآخرين..
وبهذا المعنى تطل الكوفية الفلسطينية البيضاء اللون المطرزة بخيوط سوداء على شكل معين كرمز محدد ومميز للشعب الفلسطيني مستمد من جذوره التاريخية وعمقه التراثي. ارتبط ظهورها بالثورة ومقاومة الاحتلال البريطاني حين أمرت القيادة العامة للثورة عام 1936 في فلسطين بارتداء الكوفية أو الحطة بغية تضليل القوات البريطانية ومنع تمييز الثوار الذين كانوا يرتدونها خلال تنفيذ العمليات وشاعت في وقتها أهزوجة شعبية تحرض على ارتدائها تقول: «حطة وعقال بـ 3 قروش.. والنذل يلبس طربوش»، وتعززت رمزية الكوفية وتعاظمت مع انطلاقة العمل الفدائي الفلسطيني عام 1965، حتى غدت الطابع الرسمي للفدائي الفلسطيني وخصوصاً بارتداء العديد من قادة فصائل المقاومة الفلسطينية لها وعلى رأسهم الرئيس الفلسطيني الراحل «ياسر عرفات»..
وبانتشار القضية الفلسطينية عالمياً، انتشر ارتداء أنصارها ومؤيديها الكوفية، حتى أنها أصبحت رمزاً للثورة ورفض الظلم والقهر، وخصوصاً في قطاع الحركات اليسارية في العالم، وهو ما حوّل الكوفية لسلاح إعلاني فعال أثار استياء الصهاينة، فكان ما كان من محاولات الصهيونية قلب المفاهيم وتشويه الحقائق، وقد قامت مصانع (إسرائيلية) في عام 2007 بتصنيع الكوفية بلونها الأبيض مطرزة بخيوط زرقاء على شكل النجمة السداسية (نجمة داود) وترويجها على أنها جزء من التراث العربي، وبذلك لم يكتفوا بسرقة الأرض فقط، بل يسعون لسرقة التراث والتاريخ أيضاً. لكن الخطير في موضوع الكوفية هو ما نشاهده من انتشارها مصبوغة بألوان متنوعة، ومحاولة إظهارها كجزء تجميلي أو حلية تزينية حتى أنها صارت بشكلها المشوه نوعاً من أنواع الموضة يرتديها الشباب دون أية خلفية أو معرفة لمعناها الرمزي النضالي، حتى بلغ الأمر ببعض مصممي الأزياء لتصنيع قطع من الملابس منافية للحشمة على هيئة الكوفية ذاتها، والمهين أنهم يبررون هذا الفعل بمحاولة المساعدة على انتشار هذا الرمز العظيم، وأنهم يقدمون خدمة للقضية الفلسطينية!!
الكوفية... كشجر الزيتون وبرتقال يافا، كالمسجد الأقصى وكنيسة القيامة.. مكون أساسي ورمزي لفلسطين خصوصاً وللثورة على الظلم أممياً عموماً، وفي جميع الأحوال لا يجوز المساس بقدسيتها ومضمونها، بل يجب العمل على المحافظة على قدسيتها، والسعي لانتشارها بشكلها الصحيح، والتعريف برمزيتها ومكانتها لمن جهل، كي لا نكون جزءاً من الحملة الصهيونية لسرقة التراث ومحو المعالم وقلب المفاهيم.