كأس أوروبا 2008 وإدواردو غاليانو: قدّاس مدفوع الأجر
العودة إلى «كرة القدم في الشمس والظل»، كتاب إدواردو غاليانو الفريد من نوعه، ضرورة ملحة، من عدّة نواح، في مقدمتها مشهدية كأس أوربا الحالي، يليها أسبابنا الشخصية كقراء متعويين، نبحث عن لذّة بين الكلمات لأجل اللّذة ذاتها، مع الإشادة والانحناء أمام تلك القراءة المضادة لتاريخ «اللعبة الأكثر شعبية» من كواليسها وظلالها، بعد أن أفقدها المال ميزة البهجة وحوّل هذا الفنّ العالمي إلى دمية تتحرك بأمر من السيد الأعلى للسوق.
وصلت كرة القدم إلى أمريكا اللاتينية مع البحّارة الانكليز، وبذلك تكون، حسب غاليانو: «سلعة بريطانيا للتصدير، لا تقلّ شهرة عن أقمشة مانشستر أو القطارات، أو قروض مصرف بارتيغز، أو مذهب حرية التجارة». لكنّ أمريكا اللاتينية حوّلت هذه السلعة الاستعمارية على هواها، فكسرت احتكار الفئات الراقية لها، أنزلتها إلى قيعان شوارعها الخلفية: «مثل التانغو نمت كرة القدم انطلاقاً من الأحياء الهامشية».
يسرد صاحب «ذاكرة النار» تفاصيل الارتباط الوثيق بين الكرة والوطن، الكرة والسياسة، الكرة والشعب، وتحت عنوان «الكرة كراية» يحدثنا كيف ربحت الـ«فصيلة» الإيطالية في عام 1934 و1938 باسم الوطن وموسوليني، حيث كان اللاعبون يبدؤون المباريات وينهونها بصرخة «تحيا إيطاليا» ببسط راحاتهم المرفوعة. وهناك صورة أخرى لهذا الارتباط تتمثل في نصب أوكرانيا لذكرى فريق «دينامو كييف» 1942. فهذا هو الفريق الذي أنزل بمنتخب هتلر هزيمة نكراء، مع أنّ الألمان الذين كانوا في عزّ احتلالهم لأوكرانيا قد حذروا بشكل قاطع: «إذا ربحتم ستموتون». لكنّ الفريق الشهيد الذي دخل الملعب مصمماً على الخسارة لم يستطع كبح جماحه في الكرامة، ففاز في اللعبة، وأعدم بعد انتهائها مباشرةًَ.
كرة القدم اللاتينية حاربت العنصرية رغماً عن أصحاب السلّطة، ففي عام 1921 أصدر الرئيس البرازيلي بيسوسا «مرسوم البياض» الذي ينص على عدم إرسال أي لاعب أسمر إلى بطولة كأس أمريكا التي أقيمت في بوينس أيريس، وبسبب هذا القرار خسرت البرازيل اثنتين من المباريات الثلاث التي خاضتها. بعدها، وعلى المدى الطويل للزمن، تبدلت الأمور، فقد أدرك الجميع أنّ الزنوج والخلاسيين هم أفضل اللاعبين في تاريخ البرازيل: فريدينرتش، داغيا، ديدي، غارينشيا، بيليه، روماريو.
منذ منتصف خمسينات القرن الماضي، تسللت الإعلانات التجارية إلى قمصان اللاعبين، حتى صار اللاعب مجرّد إعلان جوّال، ولقد أصبحت الماركات العالمية أكبر من الشعارات الوطنية على صدور اللاعبين، يقول غاليانو: «في بطولة العالم عام (1990) كانت خطوط أديداس تظهر على الأحذية، وعلى كل شيء آخر، وقد لاحظ صحافيان انكليزيان أنّ الشيء الوحيد الذي لم يكن للشركة، في المباراة النهائية بين ألمانيا والأرجنتين، هو صافرة الحكم».
كان وصول هافيلانج إلى قمة الفيفا كفيلاً بجعل المتعة سلعة، فهو القائل: «لقد جئت أبيع سلعة اسمها كرة القدم». يعرض غاليانو بمرارة دور السيطرة المالية في إدارة بطولات الكرة، لنرى أن ما تحققه الفيفا يضاهي كبرى الشركات متعددة الجنسيات، فبيع حقوق البث التلفزيوني، واختيار الشركات المعلنة، لا يتم إلا لمن يدفع أكثر، وليس من أهمية لغير المال، هكذا تحولت أهم أندية أوربا إلى شركات تابعة لشركات أخرى: نادي «باريس سان جيرمان» يتبع لقناة بلوس التلفزيونية، وشركة بيجو التي تموّل نادي «سوشو» هي مالكة استاده أيضاً».. وكذلك في اليابان ثمة فرق كروية لمازدا ومتسوبيشي ونيسان وتويوتا. النقود لا تهم مادام النادي يعكس صورة جيدة للمجموعة الاقتصادية التي تحتضنه.
هذا التشهير بالكرة الاحترافية جعل البطولات «قدّاساً مدفوع الأجر»، وليست بطولة أوروبا بمستثناة منها على أية حال، لكنّ جمال هذه اللعبة الذي صنعه فقراء العالم، وأبناء الطبقات الشعبية، والمهاجرون، ها هو ذا يُسرق من جديد، مثلما نسرق وننهب في حرب قطاعة الطرق التي تتشارك فيها الفيفا والاتحادات الكروية المختلفة ومحطات التلفزة والشركات الكبرى.