ربّما! عالم لا ينتهي
يحتاج المهووس بالكتب إلى كتابة مجلّدات كاملة ليروي سيرة هذا الوله الكبير من ألفها إلى يائها، فعلاقة كهذه تساوي الحياة في الأهمية، أو بتعبير أكثر دقّة، تفوقها، لأنّ الشّخص وحياته من صنعها.
لكلّ قارئ تاريخ شخصي لا يشبه تاريخاً آخر، يقوم على أكوام من الكتب، وصداقات متخيلة، مع كتّاب من شتى اللغات، وله أيضاً مسار خاصّ صنعته ساعات الإبحار اللذيذة في لجج الصّفحات الشّهية.
لكل قارئ قصة، تبدأ مع كتابٍ أوّل في زمن الوعي المبكّر، وذلك الكتاب هو المغناطيس الذي سيجذب المرء إلى فضاء الورّاقين بصفة لا تنازل عنها: مدمن. لينال، مع الوقت والإبحار في المتاهات السرية، لقب «فأر» المكتبة!
ذات مرة كتب دوستوفسكي إلى أخيه طالباً منه أن يرسل «القرآن» وكتاب كانط «نقد العقل المحض» وكتباً أخرى.. كانت رسالته تلهث وتقول: «أرسل هذه الكتب.. أرسلها.. أسرعْ.. فعليها يتوقّف مصير حياتي». تلك الرسالة كانت بمثابة نداء استغاثة، صرخة هستيرية، وكأنها طلب دواء، أو بعض من الأوكسجين لشخص يختنق.
حياةٌ موازية لحياتنا الناقصة هي القراءة. حياةٌ أصدق وأجلى وأصفى مما نعيشه في واقع مشوّه متآكلٍ. ولأننا بها نرمم حياتنا الأصلية يحقّ لنا القول إننا ما قرأنا، ما شربنا من حروف وكلمات، منبطحين على طراريح الإسفنج في ضواحي الضواحي، فما قرأناه، لما يحمله من صناعة حقيقية لخامات أرواحنا، كان من التأثير بما لا يقاس بهذه الحياة الخفيفة، الهشّة، القليلة، الذي عشناه كان محكوماً سلفاً بظروف لا علاقة لها بطاقاتنا، عملت على إعاقة مشاريعنا في تغيير العالم، لكننا فيما قرأنا كنا نغيّر العالم رغماً عن أنفه، وعن أنف من يأبى، إلى درجة أننا قطعناه في «ثمانين يوماً» مع جول فيرن، وجعلناه «لا ينتهي» بصحبة تشارلز سيميك، وأنطقنا صوته المكمم مع غاليانو في «أفواه الزمن»، واكتشفنا مدنه السرية، وغير المرئية، على هدى خريطة إيتالو كالفينو التي أعدّها ونسق معمارها في «مدن الخيال».
* رائد وحش
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.