«عابرون»:العمى كصلة قربى
شغَّل د. سامر عمران الموسيقا وأعطى الإشارة، بالبداية. لتبدأ مسرحية (عابرون) المأخوذة عن مسرحية العميان لموريس ميترلنك. (1861-1949) رائد المدرسة الرمزية في المسرح. هذه المسرحية التي تمَّ اختيارها لتكون عرضاً في صيغة امتحان لطلاب السنة الثانية الذين يبلغ عددهم سبعة عشر طالباً. اجتهدوا في نقل بلاغة النص من شكله المكتوب والمدوَّن إلى الشكل الذي تصير فيه البلاغة مسحوبة على العمليات المسرحية كافة.
وستكون حديقة المعهد العالي الميدان الذي ستنطلق في فضائه الرمزية التي تضمنتها مقولات ميترلنك التي تمَّ الالتفاف عليها وفق ارتجالات ورؤية مختلفة لسامر عمران الذي بذل الجهد الكبير وهو يضيء بسيارته لممثليه كلما وصلوا إلى نقطة عاتمة الأمر الذي يجعل الكواليس مكشوفة، وبما يجعل الجمهور مشتركاً أساسياً في العرض المسرحي. من حيث تحويل الجمهور إلى كتلة صماء. قد تتحسسها أيدي العميان. وقد تحاول جرَّها معها في طريق العمى والظلام الذي يسيرون فيه باتجاه الهاوية. أو من حيث الإحالة إلى النص الأصلي لميترلنك الذي يجتاح قرية لا تبالي بمصير العميان الذين يقودهم أعمى ويتجهون إلى الهاوية إياها. هذا ولا يمكن التغاضي عن الأسلوب الذي يرمي إلى جعل الجمهور أعمى أيضاً يسير في ركب الممثلين الذاهبين إلى مهاوي الردى على طول الطريق الذي يسلكه الممثلون. مع فارق أنَّ أفراد الجمهور الضئيل والذين تواجدوا بالمصادفة أيضاً قد استلَّ كل منهم جهاز موبايله، واقعاً تحت تأثير الدهشة. وقد شرعوا بتوثيق ما يرونه، في حين كان
د. سامر عمران يحضّهم على الاقتراب وكأنه يريد اختبار الانفعالات التي يبديها الجمهور(العادي) تجاه عرضه، الأمر الذي يجعل من الجمهور تيرمومتراً يقيس قدرة الممثلين على الإقناع. والإقناع هو الشيء الذي تفاوت من ممثل إلى آخر بين الشباب السبعة عشر الذين استنفروا حواسهم. باستثناء حاسة البصر إذا افترضنا تماهيهم مع الأدوار التي يلعبونها.
يتَّخذ العمى في «عابرون» أو العميان لميترلنك طابعاً ميتافيزيقياً من حيث هو تيمة يسمح لها الإطار الثقافي المتخيل تمييزه عن العمى الفيزيائي. إنه العمى الذي أريد له الدلالة على عجز الإنسان عن أن يكون استشرافياً صاحب رؤية تمكنه من القبض على مستقبله والأشياء التي سيؤول إليها في هذا المستقبل، هذا إذا سلَّمنا بأنَّ مصير البشر سيؤول إلى شيء. خصوصاً إذا ماتطلعنا إلى حالة التشظي التي تعيشها الحياة الإنسانية في المكان والزمان. ومن هذا المنطلق يمكن اعتبار العمى دريئة، أو حجاب حماية في مواجهة ضربات المكان والزمان باعتبارهما المحورين اللذين يعرِّفان الوجود الإنساني، والإحداثيات التي تحدِّد هذا الوجود. وهكذا يصير العمى الوسيلة الناجعة للحماية، والطريقة الفضلى للتقارب، وبالتالي إيجاد علاقات بين البشر في خضم حالة التشظي تلك. يقول مالكوم برادبري وجيمس كلافن في كتابهما المشترك «الحداثة»:» إنَّ عماء المبصر يشبه العمى الذي يصيب العيون المغرورقة بالدموع أو العيون الملتهبة، أو العيون التي يغلقها الناس من أجل الحب أو الحلم أو الموت، إنه العمى الذي ينفذ إلى أعماق النور. إنَّ هذا العمى، يعطي معنى حقيقياً للحياة أعمق من ذلك المعنى الذي تلتقطه العيون السليمة والمعافاة إذ يعتقد الكثيرون أنَّ هذا الموقف من الأشياء لا ينتج سوى حالة من الاختلاط والتشويش الكامل الذي هو سمة القرن العشرين».
في رواية العمى استخدم جوزيه ساراماغو كل الوسائل الأدبية الممكنة ليجعل القارئ يعيش تجربة العمى المفاجئ حيث تنقلنا الرواية تماماً لعالم خاص، تنقلنا هناك كعميان توجد الرواية عالمها الخاص وتمنعنا من رؤيته، وهنا فقط يداهمنا شعور العمى. أما في فيلم الكيت كات إخراج داود عبد السيد عن رواية إبراهيم أصلان. وحين جلس الشيخ حسني(محمود عبد العزيز) وابنه في الحديقة وباح الشيخ حسني ليوسف بأنه يشعر أحياناً بضيق في صدره وباختناق تصاحبهما رغبة في أن يركب موتوسيكلاً ويطير به، والابن ينظر إليه في أسى، وكان وبيد كل منهما عود وأخذا يصدحان بأغنية نفَّست عن همهما كثيراً، وكلمات الأغنية حملت الكثير بين طياتها، وبعد انتهاء الأغنية يقرِّر الابن أن يحقق رغبة أبيه ويركبه الموتوسيكل الخاص به ويقع الاثنان في الماء ، ثم يخرجان من الماء وهما غارقان في الضحك في مشهد يريد أن يوصل وينهي المخرج الفيلم بتساؤل من الابن للأب وكلاهما غارق في الضحك : يابا إنت ليه مش عايز تصدق إنك أعمى؟.
هكذا تطرح «عابرون» أو «العميان» السؤال نفسه لكن بعمى من نوع آخر، إنه العماء الذي جسَّده بجدارة طلاب المعهد العالي في الفضاء الحر، وإذا كان التساؤل من الأب إلى الابن في الكيت كات فإنه من طلاب السنة الثانية- قسم التمثيل إلى.. إلينا جميعاً.