من رواد حديقتنا!
قضمت الحرب ساقه اليمنى بأكملها، فيما عجزت ساقه الأخرى عن حمله مع أحماله الثقيلة. يتأبط عكازيه على عتبة غرفته الأرضية عند فجر كل يوم. يقفز بمساعدة أرجله الثلاث - كما يحب أن يطلق عليهم – المتناوبة على حمله، وهدفه الوصول إلى الحديقة العامة التي تبعد كثيراً عن غرفته المكمورة في أحشاء أحد الأبنية الطابقية العشوائية.
يصل أخيراً، ويجلس على مقعده المفضل. يعرفه غالبية رواد الحديقة ويعرفون ملكيته الشرعية لذلك المقعد الذي نال هوية واسماً الآن: «مقعد أبو أنس»، نعم ولده البكر كان اسمه أنس: « الله يرحمو، لقد تعذبت أم أنس بولادته كثيراً، فقد كان ولدها البكر، وأغلب النساء يتعذبن أثناء وضع أول أولادهن.. !» يكمل أبو أنس حديثه، وهو يشعل سيجارته الثانية، «لكن لم يكن ذلك السبب الوحيد في عذابها أثناء ولادتها تلك، هناك سبب آخر..»، يوشوشني أبو أنس بالجزء الأخير من حديثه الذي لم يعتد أن يرويه لآخرين من معارفه الكثر هناك، فهو لا يثق بكل من حوله حسب ما يؤكد لي دائماً، ولكنه «يخصني» وحدي بهذا الحديث، «الله يرحمو، كان راسو كبير، من طلع على هالدنيا وراسو كبير، وضل راسو كبير، والله يا ابني انو راسو والف سيف إلا بدو يطلع مع رفقاته بالمظاهرات! بس كان بدو ياها سلمية»، رمى بجملته الأخيرة تلك في أذني، وأبعد رأسه قليلاً وأخذ نفساً، ثم استرسل في الحديث بلهجته الريفية الواضحة: «أختك أم أنس -الله يرحمها- كانت تقول أنو الدنيا كلها بكفة، وأنس بكفة، كان بكرها وحبيب قلبها، وسبّبت وفاته جرح عميق في قلبها، وحملتها حزن ما تحملو الجبال..».
يعتدل «أبو أنس» في جلسته التي انكسرت حالما لامس الحديث موجة انكساراته التي يبوح بها أحياناً، ويصعب التقاطها إلا إذا جالسته طويلاً وكسبت ثقته. وشاركته حديث الخسائر ذاك، رغم أن نظرة واحدة إلى ساقه المفقودة، كانت كافية لتترك لديك انطباعاً أولياً عن حجم الدمار الذي لحق في نفسية هذا الرجل.
يعلق - متأبط العكازين - نظره بالسماء قليلاً، وكمن يتذكر، يعود ثانية للحديث عن ابنه البكر ذو الرأس الكبير، شارحاً ومبرراً بالوقت ذاته ما كان يعتقد أنه سبب كبر رأس ابنه: «أنه يحوي دماغاً كبيراً، لقد كان عبقرياً...! ربما كان دماغه بحجم دماغ آينشتاين أو سقراط، وهذا وحده كان كافياً كي يكون رأسه هدف القناص الذي أرداه قتيلاً..» كان أبو أنس متأكدأ بما يشبه اليقين أن ابنه، لو ظل حياً، لكان أصبح شيئاً مهماً، ربما قائداً، أو زعيماً ما، «فكل من حوله مشوا وراءه، وسمعوا كلامه، وتحمسوا لخطاباته وهتافاته، ويكفي أن تعرف حجم الفوضى التي سببها غيابه، ويكفي أن تعرف حالة الضياع التي أصابت رفاقتو، من بعده.. أي نعم، كان متل البوصلة، كيفما أدرتها لا تتوه عن الاتجاه الصحيح، ولا تحرفك عن المسار الذي يجب أن تسير فيه لتوصل لهدفك...».
بعد وفاة شبيه آينشتاين غادرت العائلة إلى المدينة، واستأجرت بيتاً صغيراً، أصرت «أم أنس» أن يكون أقرب ما يمكن إلى قبر ولدها القتيل! كانت تداوم على الصعود إلى سطح البناء المستأجر المطل على المكان الذي جاؤوا منه، والذي تحول لساحة معركة كبيرة تغير شكلها، وتبدلت جغرافيتها، ولم يعد يميز الناظر إليها أي من معالمها المعروفة. وحدها «أم أنس» كانت تتابع المتغيرات اليومية على المكان، ووحدها كانت تتجه صوب قبر ولدها، متبعة بوصلة أمومة لا تخطئ ما يتعلق بالأولاد.
استطاع زوج أم أنس أن يجد عملاً بمهنته- كأجير طبعاً- بعد أن كان يملك صالون حلاقة بأربعة كراسي، حسب ما ذكر، وكان لمهارته دوراً كبيراً في تحصيل تكاليف معيشة ما تبقى من عائلته، «أم أنس وابنتين صغيرتين، وفتى صغير في الخامسة عشرة». أدرك «أبو أنس» أهمية الحفاظ على عائلته وضرورة استمرار الحياة، وضرورة تغيير سكنه الحالي الذي تأبى زوجه الحزينة تغييره، رغم خطورة المكان، ورغم أنه حذرها من خطورة البقاء على حافة الجبهات!
لكنها كانت تهزمه في كل مرة يحاول فيها إقناعها، كانت دموعها ونحيبها أقوى من منطق حجته وحرصه الفطري الأبوي، في تلك الليلة بالذات وقبل أن تسقط قذيفة الهاون على رؤوسهم، كانت له محاولة معها انتهت لصالحها، ولصالح الموت والخيبة والخسارة أيضاً. لقد سقط الجميع قتلى ووحده هو من استثناه الموت مكتفياً بساقه اليمنى.
يلف الرجل ساعده الأيمن حول رقبتي، ويشدني باتجاهه محاولاً إكمال قصته وإعلامي بشيء ما مهم بالنسبة له وبالغ السرية! يسألني، ثم يجيب على السؤال الذي طرحه: «بدك تسألني ليش لساتني عايش؟ أو كيف عايش ؟ ومشان شو؟ رح قلك... أنا عم استنى، يوقف الرصاص.. أكيد يوماً ما.. ساعتها رح آخد عيلتي وأدفنها مع ابني أنس.. وأرجع على مكاني.. لكن فكرك أنس لمين طالع راسو كبير؟»، وقبل أن أحاول الإجابة، يضحك أبو أنس، تلك الضحكة التي يعرفها رواد حديقتنا، يضحك ويهز رأسه قائلاً: « إيه راس كبير.. يعني دماغ كبير!».