«هرمس» يحلق بجناحيه!
تحكي الأسطورة اليونانية أن «هرمس» كان رئيس الآلهة، السريع الرشيق، وكان عمله هو أن ينقل إلى الناس في الأرض رسائل وأسرار آلهة أوليمبوس (Olympus)، ويستطيع بنعله ذي الأجنحة تجسير الفجوة بين الإلهي والعالم البشري، ويمكن له أن يصوغ بكلمات مفهومة ذلك الغموض القابع وراء القدرة البشرية على التعبير.
تعني كلمة «هرمس» المفسر أو الشارح، وفي موضع من كتابات أفلاطون وُصف الشعراء بأنهم «مفسرو الله»، إذ حسب تطور الفكر في ذلك الحين كان السؤال هو كيف يمكن لعالمي الإلهي والبشري أن يتواصلا بدون هذا الرسول؟ وكيف يمكن تجاوز فجوة التفاهم بين العالمين وجعل ذلك البعيد ذا معنى، وواضحاً للأذن البشرية.
تتعلق الهرمنيوطيقا- وبغض النظر عن الموقف منها كأحد فروع الفلسفة الحديثة- بالتفسير، خاصة ما له علاقة بتفسير النصوص المقدسة، سواء كان الإنجيل أو القرآن أو فيدا الهندوس ..الخ. ويؤكد الباحث د. نصر حامد أبو زيد في كتابه إشكاليات القراءة وآليات التأويل أن: «القضية الأساسية التي تتناولها الهرمنيوطيقا بالدرس هي معضلة تفسير النص بشكل عام، سواء أكان نصاً تاريخياً أم نصاً دينياً، والأسئلة التي تحاول الإجابة عنها– من ثم – أسئلة كثيرة معقدة ومتشابكة حول طبيعة النص وعلاقته بالتراث والتقاليد من جهة، وعلاقته بمؤلفه من جهة أخرى. والأهم من ذلك أنها تركز بشكل لافت على علاقة المفسر (أو الناقد في حالة النص الأدبي) بالنص». هذا التركيز على علاقة المفسـر بالنص هو نقطة البدء والقضية الملحة عند فلاســــفة الهرمنيوطيقا. و يؤكد أبو زيد أن «مفهوم الهرمنيوطيقا قد اتسع في تطبيقاته الحديثة، وانتقل من مجال علم اللاهوت إلى دوائر أكثر اتساعاً تشمل العلوم الإنسانية كافة كالتاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وفلسفة الجمال والنقد الأدبي والفولكلور..». تتضمن كلمة Herméneutique أو herméneutikè بالإغريقية، في اشتقاقها اللغوي على كلمة «tekhnè» التي تحيل إلى الفن، والذي يعني الاستعمال التقني لآليات ووسائل لغوية ومنطقية وتصويرية ورمزية واستعارية.
أن عالمنا الرمزي ليس منفصلاً عن وجودنا، ويأتي عالمنا اللغوي في المقدمة. أن ما يميزنا كأشخاص هو أننا موجودات واعية، مما يعني أنها قادرة على أن تعرف نفسها وتنعكس معرفتها تلك فكرياً عليها.
أما عند فريديريك شلايرماخر فالتأويل عبارة عن فن، أي أنه طريقة للاشتغال على النصوص من خلال تبيان بنيتها الداخلية والوصفية وتوضيح وظيفتها المعيارية والمعرفية؛ ومن خلالها يمكن البحث عن حقائق مضمرة ومتضمنة في النصوص. خاصة أن لدينا كبشر ميلاً باتجاه الإيمان بما هو مكتوب، فللكلمة المكتوبة سلطتها، وعلى سبيل المثال تملك نصوص محاورات «فيدورس» لأفلاطون التي تحذر من إدعاءات الكلمة المكتوبة، وتنبه إلى ضرورات التفسير والصعوبات التي يحملها، على قارئها سلطة خاصة، وتأثيراً لا يمكن إنكاره. ولو أعطيت نصاً معيناً للعشرين شخصاً، فإنك بالتأكيد ستحصل ربما على أقل أو أكثر من عشرين قراءة مختلفة!
إن الحقائق المخفية والمطموسة لاعتبارات مختلفة سواء كانت تاريخية أوإيديولوجية أو سياسية.. الخ، هو ما يجعل فن التأويل يلتمس البدايات الأولى والمصادر الأصلية لكل تأسيس معرفي ذي طابع برهاني أو جدلي، حيث يجري الاعتماد على الفهم من أجل البحث عما هو أول في الشيء، عن الأصل، فهو يحفر في طبقات النصوص المترسبة والمتراصة (في ذاكرة التراث الإنساني) قصد الكشف عن حقائق دفينة وغابرة وفتح أقفال الكنوز المطمورة. يقوم الفهم هنا بفعل التأويل.
تعتمد تأويلية شلايرماخر على فكرة أن النص هو عبارة عن وسيط لغوي، ينقل فكر المؤلف إلى القارئ، ولذلك يشير في جانبه اللغوي إلى اللغة بكاملها، ويشير في جانبه النفسي إلى فكر مبدعه الذاتي. ويرى شلايرماخر أن العلاقة بين الجانبين علاقة جدلية، حيث يصبح النص أكثر غموضاً بالنسبة لنا كلما تقدم في الزمن، ولذلك نصبح في هذه الحالة أقرب إلى سوء الفهم، مما يتطلب وجود علم أو فن يحمينا من سوء الفهم هذا. ويستند شلايرماخر على تصوره لجانبي النص الواحد (اللغوي والنفسي) من أجل وضع قواعد الفهم، مؤكداً على وضعية تفاعلية مستمرة بين أجزاء النص الخاصة وبين كليته الكاملة.
اختلف المؤرخون في شخصية هرمس، فهو عند المصريين آخنوخ، وعند اليونانيين آرميس، وجاء في كتاب «تاريخ مختصر الدول» أن الهرامسة ثلاثة، الأول «هرمس» الساكن بصعيد مصر الأعلى، وهو أول من تكلم في الجواهر العلوية وأنذر بالطوفان والثاني «هرمس» البابلي سكن كلواذا مدينة الكلدانيين وكان بعد الطوفان وهو أول من بنى مدينة بابل بعد نمرود بن كوش أما الثالث فهو «هرمس» المصري الذي يسمى طريس- ميجيسطيس أي المثلث بالحكمة لأنه جاء ثالث الهرامسة الحكماء ونقلت من صحفه نُبذَ، هي عبارة عن مقالاته إلى تلميذه على شكل سؤال وجواب.
تذكر بعض المؤلفات التاريخية أيضاً، أن هرمس هو في الأصل اسم لأحد آلهة اليونان المرموقين عندهم. وقد طابقوا بينه و بين إله مصري قديم هو الإله طوط Thoth. الذي ظهر في الميثولوجيا المصرية القديمة كاسم لكاتب الإله أوزيرس Osiris إله الدلتا المسؤول عن الموتى والمصير البشري.
أما في الأساطير اليونانية فلقد كان هرمس ابناً للإله الأكبر زوس Zeus وقد نسبوا إليه هم أيضاً اختراع الكتابة والموسيقى والتنجيم..الخ.