قاسم حداد في عبوره الخاطف
في عبوره الخاطف إلى دمشق، وزّع ألفته على الأصدقاء بما يشبه الرذاذ في ليل الوحشة. كان كل مافيه ينبئ بقصيدة على وشك أن تهبط على المائدة، مثل تفاحة الجاذبية: قاسم حداد من الشعراء القلائل الذين يشبهون قصائدهم، إذ تختفي المسافة بين الشاعر ونصه، بأقل قدر من المهالك، حتى أن المرء يتساءل:من أين له كل هذه الشفافية والدفء والحميمية.
كان عائداً للتو من إقامة أدبية، استغرقت عاماً كاملاً في برلين، بمنحة تفرّغ من الأكاديمية الألمانية للتبادل الثقافي. في عامه البرليني كان منهمكاً بإنجاز مشروعه عن الشاعر طرفة بن العبد. لم يشأ أن يفضح أسرار علاقته العميقة بهذا الشاعر التي تراكمت على مراحل، وإذا به في مهب أسئلة حائرة وملتبسة عن حياة طرفة الذي انتهى مقتولاً، لتنشأ أسطورة عن موته. سيسعى قاسم حداد إلى تفكيك هذه السيرة الملتبسة، ويعيدها إلى جذورها الأولى في تجوال شعري وسردي، يتناوبه الهدم والبناء، إلى أن يتماهى شاعر اليوم بسيرة شاعر الأمس، في حوار لا يصل إلى يقين، ذلك أن علاقة الشاعر بالبلاط لم تنته إلى الآن، كما أن هذا النص الذي لم يغادر أوراق المسودة، في عملية كتابة ومحو، مثل لعنة تطارد الشاعر في محاولته القبض على جمرة السؤال. لكن هذه المكابدات واكبتها متعة لا تضاهى خلال الكتابة، لنقل إنها لذّة النص المفارق والتجربة في أعالي رعشتها، فجاءت تحية لشاعر استثنائي، مثلما كانت تجربة شاعر في الثأر لشاعر آخر.
لعل سيرة قاسم حداد هي سيرة الوله بأسلافه من الشعراء، فقد سبق واشتغل على سيرة قيس «مجنون ليلى» برؤية بصرية، أسهم بها التشكيلي العراقي ضياء العزاوي، كما ذهبت نصوصه إلى حناجر المغنين من مواطنه البحريني خالد الشيخ، إلى مارسيل خليفة، وهاهي التشكيلية البحرينية لبنى الأمين تراود نصوصه باللون في معرض حمل عنوان «نزوة الملاك»، وهو مقاربة تشكيلية لنصوص الشاعر التي كتبها أخيراً ما بين باريس والبحرين وبرلين. كأن مشاريع قاسم حداد لا تتوقف عند ضفاف، باشتباكها مع اللون والموسيقى، منذ قيامته الأولى، مروراً بوعوله، إلى نزوات ملائكته. هاهو شاعر عربي يعيش احتدامات الإيقاع من برزخٍ إلى آخر، دون ضجيج ، فالنص، في نهاية المطاف، هو من يقود إلى صاحبه، وليس العكس.
كان قاسم حداد قد أسس باكراً موقع «جهة الشعر»، لكنه اليوم، يوجه بوصلته إلى كل الجهات، بحثاً عن قارة جديدة للحب والشغف بالتجربة...هذا شاعر مفتون بالأسئلة أكثر من انهماكه بالإجابات.