آخر صيحات التطبيع الثقافي: إسرائيلي يقود أوركسترا القاهرة الوطنية
كثر الحديث في الآونة الأخيرة في أرض الكنانة عن المواقف والتصرفات المستهجنة السياسية من قبل النظام المصري، ولم يحدث سابقاً أن يُخترق حصن الثقافة المصرية الوطنية المنيع، فهذا السد الذي بقي طوال أعوام تلت معاهدة السلام الموقعة مع الإسرائيلين منذ عام 1979م عصياً على كل محاولات التطبيع الفكري وبث سمومها، إلى أن جاء اليوم الذي يقف فيه إسرائيلي على مسرح دار الأوبرا المصرية أعرق معاقل الثقافة المصرية، ليقود أوركسترا القاهرة الوطنية في إبداع أعذب ألحان التطبيع، والعزف على أوتار «التقارب» العربي الإسرائيلي.
(دانييل بارينبويم) قائد الأوركسترا العالمي وعازف البيانو المعروف بمواقفه المناهضة للسياسة الإسرائيلية، وهي الحجة التي استخدمتها وزارة الثقافة المصرية في معرض تبريرها للدعوة والحفل الذي جاء برعاية من وزارتي الخارجية النمساوية والاسبانية.
دانييل الذي استبق الحفل بإطلاق التصريحات الرنانة الداعية للسلام كما يقول: «سيكون من الأفضل كثيراً لو ذهب المصريون والسوريون والفلسطينيون والأردنيون واللبنانيون إلى تل أبيب لشرح وجهة نظرهم والتعبير عنها»، وأوضح أنه: «ليس ذلك للتعرف على المجتمع الإسرائيلي بشكل أفضل فحسب، وإنما أيضا لإمكانية إسماع صوتهم للمجتمع الإسرائيلي وشرح رأيهم»، في دعوة واضحة المعالم والمرامي عن هدفها الكامن في غزو العقل العربي من بوابة الموسيقى باعتبارها لغة عالمية. والغريب هو الحضور الكثيف واللافت للنظر من جانب الكثيرين من المثقفين والفنانين المصرين الذين ما انفكوا يروجون لهذا الرجل ودوره الريادي المعتدل تجاه القضية الفلسطينية وشعبها ودعواه المتكررة للسلام ورفض العنف، ليصل الأمر حد إطلاق صفة «رجل السلام والتسامح» عليه، وهو ما ورد على لسان الفنان عمر الشريف أثناء تقديمه بقوله : «أحب أعماله وأحب آراءه، إنه رجل يحث على التسامح». وفي المقلب الأخر ثمة من دافع بحجة أخرى كالسينارست أسامة أنور عكاشة الذي قال: «الفن ليس له وطن لأنه يقدم لغة أخرى يجب أن نتحدث فيها بمنطق خارج السياسة، ثم إن بارينبويم ليس مسؤولاً عن جرائم إسرائيل في حق الفلسطينيين، وبعض الإسرائيليين غير مسؤولين»، ولكن ما نسيه عكاشة أن الدماء في قطاع غزة المحاصر مصريا ما كادت تجف وطوال العدوان لم نسمع أي استنكار أو إدانة أو حتى تعليق من جانب بارينبويم؟
ومن جانبه دافع وزير الثقافة المصري والمرشح لتولي منصب مدير منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «اليونسكو» فاروق حسني عن الدعوة بقوله: «إن الرجل يحمل جنسية فلسطينية ولولا مواقفه لما منحه الفلسطينيون جنسيتهم»، محتجاً بأن الدعوة جاءت من جانب النمسا وإسبانيا وهو ما أوضحته سفارتا النمسا وإسبانيا اللتان أعلنتا في بيان لهما أنهما وراء دعوة بارينبويم «أشهر قائدي الاوركسترا وعازفي البيانو على مستوى العالم حاليا»، لتقديم الحفل «تحت رعاية» وزيري الخارجية بالبلدين. فهل باتت الدول الأوربية تفرض شكل الخارطة الثقافية ومعالمها التضاريسية في مصر؟ ثم إن الجميع بات يعلم أن وزير الثقافة المصرية يواجه معارضة من عدد من الدول الأوروبية وإسرائيل لتوليه منصب مدير اليونسكو، لما عرف عنه طول سنين من رفض للتطبيع والمطبعين مع إسرائيل، فهل تفسر الدعوة على أنها خطب ود للجانب الإسرائيلي وتدليل على قبوله للأخر؟ ومن جانبها رفضت الكثير من النخب المصرية الزيارة واصفة إياها بالتطبيع من البوابة الخلفية .
زيارة بارينبويم ليست الأولى لبلد عربي فلقد سبقتها زيارة إلى المغرب عام 2003، بالإضافة إلى عزفه مع فرقته في مدينة رام الله الفلسطينية2008.لكن يبقى الأهم هل ستتكرر هذه الزيارة لعواصم ومدن عربية أخرى، لتصبح صيحة من تقاليع التطبيع الثقافي لها منظروها والمدافعون عن غاياتها وأهدافها؟ بارينبوم من جانبه أسفر عن وجهه الحقيقي بعد أن أطرب الحاضرين بعزف السيمفونية الخامسة لبيتهوفن بقوله «إنه تربى في إسرائيل وتعلم فيها وهو يشعر بالألم بسبب احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية.وانه لا يرى طريقة غير التواصل والتفاهم بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي في ظل قناعة كل منهما بحقه في هذه الأرض مشيرا إلى أن التفاهم يمكن أن يبدأ من نشاطات كهذه».