وقت مع أحمد دحبور: الثقافة الفلسطينية في الجانب الآخر للظلال
وحده الشاعر من يستطيع أن يحوّل سهرة صغيرة إلى احتفال.. وحده من يأخذ المبذول اليومي إلى أفق آخر حافل بالإلماعات والأسئلة الذكية.. هذا هي حال الجلسة الأليفة التي جمعتنا بالشاعر الفلسطيني أحمد دحبور الخارج قبل فترة قصيرة من أزمة قلبية حادة.. دحبور فتح قلبه بكلّ حبّ وراح يتحدّث عن شجون الثقافة الفلسطينية بادئاً بالحديث عن السينما نظراً لما حقّقته السينما الفلسطينية من قفزات نوعية: "بقليل من الحفر في أثريات المشهد الثقافي العربي نجد أن الفلسطينيين هم أصحاب أول فيلم تسجيلي عربي، فالأخوان لاما، إبراهيم وبدر لاما، أنجزا فيلم "قدني في الصحراء" عام 1927، وهو الفيلم الذي يشكّل مفتتح الفن السابع في البلاد العربية التي لم تعرف إلا الأفلام الأجنبية قبل هذا التاريخ، لذا فهو بمثابة قص لشريط السينما الحريري فيها، مع أن المصريين يعتبرون أنهم أصحاب الفضل في هذا المجال وحجتهم فيلم "ليلى" لعزيز أمين". لكن السنوات التالية على فيلم الأخوين لاما التي ستتوجها النكبة ستبعد الجميع عن مشاريعهم وستلقي المأساة آثارها الجهنمية على كل شيء..
السينما الفلسطينية لاحقاً ستسجل تفوقها شكلاً ومضموناً، فالظرف الفلسطيني سيلهم صنّاع السينما التسجيلية بالكثير من الموضوعات الحارة، وسيكون شرف التأسيس في هذا المضمار للمخرج مصطفى أبو علي. أما السينما الروائية فسوف تشهد ولادة أخرى مع موجة السينما الجديدة التي مهّد لها الطريق فيلم "الظلال في الجانب الآخر" لغالب شعث، ولن يكون غريباً بعدها ظهور تجارب ميشيل خليفي وإيليا سليمان ورشيد مشهراوي...
في شؤون الأدب يبدأ بالرواية التي يرى أن النكبة وظرف الشتات جعلاها تعرّف بالمدن العربية الأخرى لأن المدن الفلسطينية أصبحت محتلة وأهلها مطرودون منها: "رواية جبرا إبراهيم جبرا "صيادون في شارع ضيق" هي الرواية العربية الوحيدة التي تتحدث عن بغداد الأربعينات. و"نجران تحت الصفر" رواية يحيى يخلف كانت أول شهادة عن السعودية من الداخل".
أما عن الشعر الذي واكب تاريخ قضية هذا الشعب في مراحل معروفة للجميع، وصل حسب رأي دحبور إلى مرتبة الشعر الحقيقي بفضل عبقريات شعراء فلسطين، وهكذا سنرى أنه "ليس مصادفة أن يكون محمود درويش شاعر هذه المأساة". كذلك الأمر في القصة القصيرة، وفي الفن التشكيلي، وحتى في مختلف فروع المعارف الإنسانية فعمل مثل موسوعة "بلادنا فلسطين" عمل فريد من نوعه عربياً، وكذلك كتاب "النكبة والبناء" لعارف عارف ووليد القمحاوي، وفي المجال الفكري تحلّق عالياً إنجازات إدوارد سعيد وهشام شرابي.. لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا: "ما هي إشكالية الثقافة الفلسطينية أساساً؟؟ دعنا من هذا الزهو الجميل بأنانا الجماعية".. يجيب صاحب "شهادات بالأصابع الخمس": "واحدة من أبرز إشكاليات الثقافة الفلسطينية هي الإبداع الجماعي، لطالما كان هناك مبدعون قدموا إبداعات فردية هامة، لكن الإبداع الجماعي لم يتحقق، بل إنه كان طوال الوقت محفوفاً بالمخاطر، لأن أي تجمع فلسطيني لا يمكن أن يقوم إلا بالفلسطينيين الموجودين على بقعة معينة، والمثال على ذلك غياب فريق كرة قدم بالمعنى الحقيقي، ولعل المصادفة الوحيدة في الإبداع الجماعي تجلت في "فرقة العاشقين".. وحسب".
ماذا بخصوص الدور الثقافي للسلطة الفلسطينية؟؟ سؤال ساخر يحتم جواباً ساخراً، فالسلطة رمزية أساساً، "السياسي الفلسطيني لم يكن وفياً للثقافة مثلما كانت الثقافة وفية للسياسة!!"، يجيب، ويضيف "حتى منظمة التحرير الفلسطينية التي تأسست عام 1964نفسها كانت أول مرة تدخل إليها كلمة ثقافة في العام 1974!!"
الثقافة الفلسطينية التي قدمت مبدعين كباراً في مختلف المجالات ظلت مخذولة، وفي كلام دحبور كثير من التحسر عليها رغم أن هذه الثقافة أدت استحقاقاتها الوطنية والأخلاقية، حتى أن الكثير من المثقفين الفلسطينيين استشهدوا كغسان كنفاني وكمال ناصر وماجد أبو شرار وناجي العلي... وكثيرون سواهم ظلوا من موقعهم يقدمون ويعطون لفلسطين اسمها ومعناها.. يقول شاعر"طائر الوحدات": "في النكبة لم يكن هناك شيء يثبت أننا موجودون إلا الثقافة" وربما نستطيع أن نضيف وكذلك الآن وفي الغد.. لا شيء يثبت أننا موجودون إلا الثقافة!!