فلسطين... كوستوريتسا
لم تستطع الثقافة العربية بشكل عام والأداء السينمائي العربي بشكل خاص تصدير عدالة القضية الفلسطينية وصورة المعاناة الناتجة عنها، فحضور هذه القضية في المحافل الثقافية العالمية حضور ضعيف وشبه معدوم أحياناً، بل حتى الاعتماد على رجال الثقافة العربية بمختلف صنوفها لم يؤدِّ إلى تشكيل جبهة ثقافية عربية تدافع عن فلسطين، حتى بات الاعتماد في بعض المستويات على ما يقدمه المثقفون في العالم عن هذه القضية، إلا أن هذا لم يصب دائماً في مصلحتنا.
وفي الحديث عن السينما نجد القضية الفلسطينية في سينمانا ضعيفة الوجود أو ضعيفة التأثير إن وجدت، باستثناء بعض التجارب العربية التي وصلت بصورة صعبة إلى مهرجانات سينمائية عالمية كبرى، وتم تقديمها للجمهور خارج الوطن بشكل جيد.
أما السينما الغربية فكانت ضعيفة في نقاشها لفلسطين بل كان وقوفها ضد الشعب الفلسطيني حاضراً أكثر من أدائها العادل، فكبرى الأفلام التي تناولت القضية الفلسطينية صبت في مصلحة العدو أكثر من فائدتها للعرب كفيلم ميونيخ أو لعبة التجسس أو ما إلى ذلك، إلا أن المخرج العالمي إمير كوستوريتسا الملقب بـ "ساحر السينما العالمية" يستعد للوقوف في صف عدالة القضية من خلال فيلمه الجديد الذي يعتزم العمل عليه بعنوان "cool water" (ماء دافئ) والذي يجسد معاناة الفلسطينيين من خلال رحلة مأساوية إلى قطاع غزة في قالب كوميديا سوداء حسب تصريحه في مهرجان مراكش الدولي للسينما حيث كان مكرماً هناك.
اعتاد كوستوريتسا الوقوف مع الشعوب ضد الظلم بغض النظر عن انتماءات هذه الشعوب ومشاربهم، فنظرته الإنسانية التي تلاءمت مع نموذجه السينمائي الساحر جعلت منه ناطقاً بلسان الكثيرين من المعذبين في الأرض، فلم تستطع عصابات الإمبريالية العالمية تقويض إبداعه وتسييسه في مصلحة المال السينمائي ومنعه من الحصول على شهرة عالمية كبيرة كان أساسها إبداعه السينمائي الفذ ومدرسته الفريدة سينمائياً... من آلام أرياف يوغسلافيا إلى مشكلة التجزئة فيها إلى حياة الغجر فمآسي الفقراء وصولاً إلى القضية الفلسطينية..
نموذج كوستوريتسا الفريد الذي يقف في صف الشعوب المقهورة، يجبرنا على القول إن هناك صورة إبداعية عالمية تتخطى حدود السائد ولا تغريها مؤسسة الإنتاج العابرة للقارات، ولا تقف في وجه إبداعها، بل وهذا النموذج يصبح بفعل عمله وإبداعه ثقافة كاملة يمكننا الاعتماد عليها حتى وإن كان ما يربطنا بها هو صيغة إنسانية متجاوزة للحدود.
ها هي قضيتنا تحت مجهر غيرنا وننتظره كي يشعر بها بحس إنسان مبدع، ويسوقها ببطولة متميز، لنجلس ننتظر سوانا ليقدم ذاتنا وفق رؤيته آملين أن يكون عادلاً في هذه الرؤيا دون أن نبحث عن اللغة المحلية التي نستطيع ترجمتها بجهودنا وتقديمها للعالم من أرض المعاناة وبلسان حال أهلها دون نتيجة مرحلية تذكر.
فترة ليست بطويلة تفصلنا عن خروج فيلم كوستوريتسا ليرى النور، ويدخل كبرى مهرجانات السينما في العالم، وربما ينال جوائز كعادته عن فيلم يتناول ما نود تقديمه للغير، ليبدأ نقاش هذا الفيلم على مستويات عالية جداً، ونسعى لاقتنائه لنرى أنفسنا في كاميرا أحد ما يجمعه معنا حسه العالي ونظافة رؤيته.