مطبات: الخصخصة الصامتة
كيف وصلت بنا الحال هكذا؟ كان الراتب يكفي، والزوجة تخبئ بعض المال لتفاجئ به الزوج عند الحاجة، كان الجميع يسبح بحمد الله على الدخل المحدود، والوظيفة لم تكن (البحصة) التي تسند الجرة، كانت الجرة المملوءة بالأمل والنجاة، حتى الشتاء كان أكثر دفئاً، والصيف الحار مشوار للربوة والغوطة ببعض اللحم والفاكهة.
من راتب وظيفته في الدرجة الرابعة كان أبي يشتري الخبز الكندي الذي يتلقفه أبناء الحارة دون حشوة من اللبن أو الجبن، ونأكل لحمة رأس الخاروف المفلفل، والحواصل التي تمتلئ بالحصى التي يبتلعها الدجاج ليهضم طعامه، وأمي تطبخ الديك الفرنسي والحبش في ولائم الجمعة، واجتماع العائلة، وفي الأعراس يهدي الجيران الرز والسكر والخراف لأهل العريس، وفي رمضان تسير الصحون إلى البيوت قبل الإفطار كعربون تعاضد قبل العبادة.
هنا بالضبط هنا على رأي (النوّاب) كان العمال يتزاحمون للذهاب إلى المعامل، كانت سيارات وباصات المبيت تقلهم جماعات وتعيدهم في المساء مغبرين، كان القطاع العام يستيقظ في الصباح الباكر على أصوات الأحذية الهارعة إلى الآلات ولا ينام، كانت الشركات تعج بالأصوات العالية التي تجتمع على آلة تعطلت، وعلى توزيع فيش الراتب القليل المبارك، هناك في تلك اللحظات لم يكن في ذهن أحد أن يتم توزيعه إلى مكان آخر مستخدَماً على سبيل المثال في وزارة التربية.
لم تكن البرامكة سوقاً للعاطلين عن العمل، لم تكن مرتعاً للذين يبيعون الساعات الصينية على أنها سويسرية ومطلية بالذهب عيار 24 قيراطاً، بائعات الدخان، بائعي وحدات سيريتل و(م. ت. ن)، اليانصيب، ماسحي الأحذية، ووراءهم شرطة المحافظة... كان الصباح فيها كأس حليب ساخن وكعكاً محلى، وبعض النائمين على الكراسي بانتظار وصول أول باص.. كانت البرامكة سوقاً للواصلين من سفر، وعائدين إلى بيوتهم محملين بالحلاوة الحمصية، هريسة طيبة، بعض السمك، وصفيحة جبن حموية.
كان الأستاذ محمود مدرس اللغة العربية يطيل الدرس إلى الفرصة دون أن نتململ من أجل أن يتم شرح معلقة عنترة، كانت حصة الموسيقى متعة رغم أننا لم نحفظ منها سوى السلم الموسيقي.. آنسة الموسيقى كانت جميلة، والصف مقعد لخمسين طالباً، والمدرسة حصة للمتعة والدرس والنشاط.. اليوم لا تعاون ولا نشاط، قسط مدرسي للثانوية الخاصة كي يدخل أبناؤنا الجامعة العامة وفي الأسوأ التعليم المفتوح، قبل الامتحان البيت مفتوح للمدرسين الخصوصيين، الوقت لا يكفي لإتمام المنهاج، وفي البيت يفهم الطالب أكثر، والأستاذ عندما تمتلئ جيوبه يعطي أكثر، ومدرسة الحكومة تتقهقر أمام الخاص المتكاثر.. الدرس بثمن باهظ.
بصمت، سرنا إلى الخاص، القطاع العام بنشيد عامليه، المدرسة، والمعمل، والأستاذ، والكهرباء، والماء، الوقود، الإعلام والجريدة، أكثر من 504 ملياراً خسارات القطاع العام، 260 شركة في الطريق إلى التهالك، القطاع الصناعي بشركاته الـ92 وبخسارة قرابة 5 مليارات ليرة.. بصمت تم خصخصتنا.. وها نحن بصمت نسمع أننا ما زلنا ذلك الخط الأحمر الذي لا تسمح الحكومة بالاقتراب من لقمته.. بصمت؟