جهاد أبو غياضة جهاد أبو غياضة

التأريخ البصري في مواجهة النكبة: لملمة أشلاء الصورة المحطمة

ما إن استفاق العالم من صدمة أكبر اغتصاب وسرقة موصوفة في التاريخ لوطن بكل مفرداته (أرض وشعب وتاريخ..) وبدأت تتضح معالم الفاجعة؛ حتى وجد نفسه في مواجهة أعقد قضية في التاريخ الإنساني بكل مفرزاتها، وأهمها طرد وتشريد ملايين الفلسطينيين من ديارهم، وقيام دولة على أنقاض هذا الشعب تهدد بنسف وجوده وتاريخه الفعلي والحسي، عبر تقديم جملة من الحملات الدعائية والبروباغندا أحادية الخطاب لتزوير وطمس وتحريف ملامح نكبة عام 1984، وبالتالي محو معالم الشخصية العربية الفلسطينية من ذاكرة الأجيال ولم يكن ليغيب عن بال وتفكير قادة الصهيونية وحكماء الامبريالية العالمية تأثيرات فلسفة الصورة في حمل هذا الخطاب، وخصوصاً مع وقوف فن السينما على قدميه واتضاح ما يمكن أن تؤديه الشاشة الكبيرة من دور في ترسيخ الأفكار والتأثير في العقول والمشاعر، فكانت الأفلام التسجيلية الإسرائيلية عن حياة الكيبوتزات وأعمار الأرض وبناء الدولة ومع رواج الأفلام الروائية ظهرت موجة ما سمي (حرب التحرير) كـ«التل 24 لا يجيب»، «لا تخيفونا»، «بيت أبي».

وفي الوقت نفسهوجد النظام الرسمي العربي المهزوم نفسه في مواجهة إعلامية مفتوحة مع هذا الكيان الوليد، وبالإمكانات البسيطة والمتاحة في ذاك الزمن صارت تظهر أفلام تسجيلية كـفيلم «قيام إسرائيل غير قانوني»، وفيلم «زهرة المدائن» عن المجازر وقوافل المشردين وحياة خيام اللجوء.. وإن بقي ذلك في إطار محدد، ولم يستطع كبح سيل الدعاية الإسرائيلية. إلى أن جاءت هزيمة حزيران الـ67 التي شكلت إعادة إنتاج للنكبة بصورة جديدة، لكن لتدفع الشباب الساخط والثائر على جراح النكسة، وبتأثير مباشر لفعل انطلاق العمل الفدائي الفلسطيني إلى بوتقة التعبير عن وعيه الثوري وتطلعاته، وبدأت تنتج الأفلام الروائية الخاصة التمويل التي كان باكورة إنتاجها الفيلم الأردني «وطني حبيبي (1964)» الذي كتب قصته وقام بإخراجه عبد الله كعوش، وفيلم «الطريق إلى القدس (1968)»، و«كفاح حتى التحرير»، و«وعد بلفور(1970)» الذي كتب قصته والسيناريو أحمد العناني. ثم الأفلام السورية كفيلم «الفلسطيني الثائر(1969) » لرضا ميسر، و«ثلاث عمليات داخل فلسطين(1970)» لمحمد صالح كيالي، و«فدائيون حتى النصر(1971)» لسيف الدين شوكت. إضافة لأفلام أنتجتها المؤسسة العامة للسينما وهي «المخدوعون (1972)» للمخرج المصري توفيق صالح عن رواية «رجال في الشمس» للأديب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني، و«السكين (1972)» لخالد حمادة عن رواية كنفاني «ما تبقى لكم»، و«كفر قاسم (1974)» للبناني برهان علوية، و«الأبطال يولدون مرتين (1977)» لصلاح دهني.

ولما كان لابد أن يقول الفلسطينيون كلمتهم ظهر عميد السينما الفلسطينية الحديثة «كامل أبو علي» والذي توفي في شهر تموز الماضي مخلفاً وراءه ثروة من الأفلام المهمة التي أرخت لمسيرة الشعب الفلسطيني والمقاومة كـ«لا للحل السلمي (1968)»، «الحق الفلسطيني (1969)»، «بالروح بالدم (1971)»، «العرقوب (1972)»، و «ليس لهم وجود (1974)»، في محاولة لتحدي السرد الإسرائيلي المضاد، باعتباره مجالاً لتشكيل الهوية، وفهم ما جرى عام 1948 حيث وجد الفلسطيني نفسه بلا أرض ولا وطن، وضائعاً بين السرديات الكثيرة.

كما يسجل هنا الفيلم الأوربي «هنا وهناك (1970)». لفانيسا رديغريف و جون لوك غودار.

ومع ظهور التلفاز العربي وهيئاته الوطنية، وظهور الدراما كمعادل لتقديم الواقع والتاريخ. انتقل موضوع النكبة إلى الدراما التلفزيونية في محاولة لكسر أبعاد الصور التي قدمتها السينما، والتي تراوحت بين الأرشيفي التاريخي التسجيلي، وبين أيقونات الثورة والبطولة والعمل الفدائي؛ لتقدم صورة جديدة عن سبل الحياة الاجتماعية للشعب الفلسطيني وقضيته. حيث لعب الحنين والعامل النوستاليجي دوراً كبيراً في تركيز الصورة الاجتماعية؛ خصوصاً مع تزايد سنين اللجوء. إضافة لمواجهة محاولات سرقة التاريخ والتراث التي بات الصهاينة يُجرونها مشفوعين بقاعدة «بن غوريون» الشهيرة: «الكبار يموتون والصغار ينسون». فبرزت الأعمال الدرامية التي أرادت توطيد مفهوم الذاكرة الشفهية، واعتمادها سبيلاً للتأريخ الفلسطيني ومعادلاً أساسياً في حرب المواجهة مع السرديات الكبرى التي تنازعت القضية الفلسطينية، وكانت التجربة الدرامية الأولى مسلسل «عز الدين القسام (1981)» من تأليف الشاعر أحمد دحبور وإخراج هيثم حقي، وإنتاج دائرة الثقافة والإعلام في منظمة التحرير الفلسطينية وتلفزيون قطر، ثم لتكر السبحة بأعمال عدة كالعمل السوري «نهارات الدفلى» الذي كتبه الشاعر الفلسطيني الراحل فواز عيد، وأخرجه أحمد زاهر سليمان، والمصري «فارس بلا جواد».. وتتابع بالعديد من الأعمال الدرامية السورية كمسلسل «الشتات (2003)» و«عائد إلى حيفا» للمخرج الفلسطيني المولود في سورية باسل الخطيب، إلى أن جاء عام 2004 ليشهد أهم الأعمال الفلسطينية في الدراما السورية، وهو «التغريبة الفلسطينية» تأليف وليد سيف وإخراج حاتم علي. وهو الذي كان قد سبق له أن قدم بإخراج الأردني صلاح أبو هنود بعنوان «الدرب الطويل» ولم يحقق نجاحاً يذكر.

ومع نهاية القرن الماضي أصلت السينما الإيرانية في فيلمي «المتبقي» لسيف الله داد، المأخوذ عن رواية غسان كنفاني «عائد إلى حيفا» والفيلم الإيراني - السوري- اللبناني «يوم صدور الحكم» للمخرج المعروف عباس رافعي. ولعل فيلم «الترحال» للمخرج ريمون بطرس من الأفلام الهامة على صعيد السينما العربية في تقديمه للآثار النفسية والاجتماعية للنكبة وأوضاع اللاجئين ومعاناتهم.‏ ولكن يبقى العمل البصمة بحق في إطار التأريخ وإعادة رسم ملامح النكبة في ذاكرة الأجيال فيلم «باب الشمس (2004) » ليسري نصر الله (عن رواية اللبناني إلياس خوري).