بين قوسين: التائبات والتائبون
تُثبت «التوبات» المتلاحقة التي «يعلنها» بين الحين والآخر العديد من مشاهير ومغموري العاملين في الفنون والآداب والسياسة، أن قسماً لا يستهان به من الناشطين في هذه المجالات الإبداعية على قدر ضئيل من الوعي والثقافة واليقين بما يفعلون، وأن الوجود الفيزيائي «التاريخي» لهم في مواقع فكرية أو إبداعية أو اجتماعية محددة لفترات متفاوتة، لم يكن وجوداً صميمياً وعضوياً، مرتبطاً بمشروع أو بفكرة أو بغايات عامة كبرى، بقدر ما هو ظرفي وطارئ وانتهازي، ساهمت في إنتاجه على هذه الشاكلة عوامل عدة مؤثرة، يأتي في مقدمتها الظرف الموضوعي التاريخي أو «الموضة الدارجة» المتزامن مع سيادة الأمية بشكل عريض من جهة، وعدم تكافؤ فرص إثبات الذات لموهوبي شرائح المجتمع المختلفة من جهة أخرى.. وعلى هذا الأساس فإن اختراق وزعزعة الأفكار العدمية للقناعات الهشة لدى معظم فقيري الوعي من المشاهير باتجاه تغيير نافذة وطبيعة الارتزاق، من باب «الحلال والحرام»، و«الثواب والعقاب»... أمر بغاية البساطة!
المشكلة في «توبة» هؤلاء العابرين في حقل الإبداع على اختلاف سرعات عبورهم، أنهم يساهمون بصورة فاعلة في تكريس فكرة ظلامية أنتجها غلاة الكهنوت المتزمت لبعض الديانات المتأخرة دون أن يستندوا لنص واضح وصارم، وهي أن مزاولة العديد من الفنون أمر محرّم، وبالتالي يصبحون نموذجاً حياً للعاصي التائب، وحجة وحربة ومثالاً بيد العدميين لتثبيت ونشر أفكارهم ومشاريعهم الرجعية بسهولة أكبر في أوساط ينهشها الجهل والخوف والفقر منذ زمن طويل، وها نحن في كل يوم، يطالعنا تائب جديد.. يفاجئنا ممثل معتزل تحول إلى داعية، بسرد تفاصيل مسيرته من الضلال (الفن) إلى التوبة، وتعظنا «الحاجّة فلانة» الممثلة والراقصة سابقاً والتي تسعى بكل الوسائل بما فيها الوعيد لسحب أفلامها من التداول، بضرورة العودة إلى الطريق القويم، وينشر أحد السائرين السابقين في ركب اليسار كتاباً عن مخاض انعطافته التاريخية إلى اليمين بامتداداته المتلبرلة والمتأمركة، ويصعقنا مغنّ من عصر الكليب بتغيير هيئته وانضمامه إلى فرقة «إنشاد» أو إلى صومعة ما، داعياً جميع زملائه السابقين ليحذوا حذوه!.. وهكذا دواليك..
فضيلة هذه الظاهرة الحاضرة بقوة اليوم، بسبب المناخات الاجتماعية والسياسية السائدة وما نتج وينتج عنها من خيبات وانتكاسات عامة وشخصية، أنها تفضح بعض أسباب وجود فجوات وانزلاقات كبيرة في المنجز الإبداعي والاجتماعي العربي الحديث بمختلف تفرعاته الفكرية والفنية والأدبية والسياسية، الذي لم يرتق في غالبيته لمستوى التحديات القائمة، وتكشف عن سطحيته وعفويته وقصوره، وتعري شريحة واسعة من متسيدي المنابر والمواقع المؤثرة ومحتكري الحضور «التاريخيين»، وتفتح الإمكانية لملء الفراغات التي ستأخذ بالتزايد، بنوعية أكثر عمقاً ووعياً وتعمداً ويقيناً من الكادرات الموهوبة والمبدعة.
لقد شكلت الفنون والآداب الراقية بأنواعها المتعددة تاريخياً، الترجمان التعبيري للأديان القديمة بروحيتها وفلسفتها ومسار نشوئها وتطورها، وظلت ملازمة لها ومعبرة عن طقوسها المختلفة طوال عدة آلاف من السنين، لكن عوامل متعددة نضجت في القرون الوسطى أدت إلى الفصل القسري بينهما، فسار كل منهما في طريق مختلف، واليوم هناك من يحاول بطريقة منظمة تعميق هذه الهوة برساميل كبيرة موحدة عبر فرض إطارين إعلاميين يبدوان متناقضين تماماً من حيث الظاهر، وهما محطات الدعوة من جهة، ومحطات «الفن الرخيص» من جهة ثانية، بإيحاء استبدادي خفي أنه ليس أمام الناس إلا الاختيار بين «الفضيلة» و«الرذيلة»، مكرساً ثنائية وهمية من نوع خاص، ومغيباً الخيارات الأخرى الأكثر واقعية وصدقاً وإنسانية، متناسياً أن عوامل الفصل القسري قد تراجعت موضوعياً بحكم التطور، وأن العالم الروحي للإنسان أوسع من أن تضبطه وتحدده الرساميل، وأرقى من أن تحكمه الغرائز، وأزهى من أن يستبد به السواد..
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.