في الذكرى السنوية الثانية لرحيله: محمود درويش لا تعتذر إلا لأمك
من جديد نكتب عن محمود درويش كغائب وهو الحاضر قسراً في لا وعينا، ومن جديد يضع الجميع على المحك كما كان يفعل في كل قصيدة يكتبها أو نثرية يكتبها أو ديوان يصدره.
يعود درويش ليؤكد أن موته هو القصيدة الأكثر إحراجاً من كل حياته ربما؟ إنها الطلسم الذي يصعب إيضاح معالمه، والرمز الذي يُعجز الكثيرين، والحقيقة الوحيدة في احتفالات الزيف التي نعيش..
فهل كان هذا القرار قرارك؟!
لا بد أنه كذلك لأن أية قدرة ما كانت لتقتلك سابقا وقبل ملحمة حوارك الجريء والمتكافئ مع الموت حتى تفعلها بعد ذلك.
كنا وبعد كل خسارة وفي كل سنوية لموت ننتظر درويش لنسمع الرثاء الذي يعطي الأشياء تواصيفها الحقيقية ويمنح الموت جلالا أكبر من جلاله، فمن يستطيع اليوم رثاء الرجل الذي أعتقد أنه لم يعد يجد على أرضه ما يستحق الحياة فمات؟!
أقول إن درويش وضع الجميع على المحك.. وأول من وضع فعلا على المحك هو الشارع الفلسطيني الذي لم يكن يترك درويش ينتبه إلى أثر الفراشة إلا متأخرا، ولم يمنحه الهدوء ليصف زهر اللوز إلا متأخرا، وما كان منه إلا أن يزجه في اقتتالات كان الرجل يحاول أن يجد السكينة الشعرية بعيدا عن صخبها الدموي.. هذا الشارع الذي تأخر على درويش في كل شيء.. بكر عليه في موته.
ففي الزمن الذي يصبحُ مكانٌ دافعَ عنه كل حياته، ودافع عن ديمقراطيته كل حياته، ودافع عن إنسانيته كل حياته، في زمن يصبح هذا المكان معقلا للدم المجاني وأرضا خصبة للتناحر على سفاح القربى، ومكانا لتجلي الأشلاء في الشوارع بثمن بخس.. لا بد أن ينسحب الشعراء إلى ما وراء المعرفة بل أكثر من ذلك وأعلى.. ولا بد أن لا يجد الشعر مكانا له في زواياه الضيقة.
ترجل محمود درويش عن كواكبه الإحدى عشرة تاركا الحصان الشعري وحيدا، ليصعد إلى أعالي صليبه العاري فيرى ما يريد ويمدح الظلال العالية لأشجار الزيتون ويضع وردا أقل على الجرح الفلسطيني فيخلف حزنا ليس عاديا، فعلها عله يقدر أن يصف من علٍ الغيوم وزهر اللوز مبقيا جداريته على حالها حالة مثله لا تتكرر في الشعر.
محمود درويش الذي عاش مريضا بالقيمة والاستثناء والتجربة والجمال والدهشة والحيرة والفضول والحب أولا وأخيرا... مات مريضا بنا جميعا وأين؟ في أمريكا إنها سخرية القدر!
عليه نستطيع أن نفهم اليوم حالة الفقر التي يعيشها المشهد الشعري، المشهد الذي يتسمر أمام نوافذ قلبه ليرى مطرا قادما من سفوح قصيدة محمود درويش فيغتسل ويسقي جرحه ونخره، ويومئ للغائبين أن انتظروه فقد جاءكم كاملا كما عهدتموه، وحرا كما عهدتموه.. أتاكم دون أن يترجل عن أقاصيه حاملا كل بلاغته وشاعريته وإحساسه منقطع النظير بحب الاكتشاف فخذوه واعتنوا به وحافظوا عليه.
رحل هذا الرجل تاركا للعواصم أن تصف نفسها بنفسها، أن تبكي على نفسها بلا كلام يغذي شعورها بالأنوثة والمدى...
من منا يقدر اليوم أن يصف ما فعل هذا الشاعر لمجرد أنه شاعر بكل هذي الجموع وبكل هذه الحجارة الناشزة؟ من منا يقدر أن يتقبل العزاء بهذا الفقد؟ من يقول أنه كان يعرف تماما هذا الغائب اليوم في زمان مضى؟ لا أظن والوحيدة التي كان يمكن أن نعزيها كانت حورية الأم التي استحقت أن تكون أما له ولنا جميعا غير أن أمومتها أبت إلا أن تلحقها بالفلذة الناقصة..
محمود درويش لا تعتذر إلا لأمك..!!!