مطبات: مواسم.. مواسم
ليس كما كنت أظن، الثوابت لا يغيرها الزمن، وأن الوقت مجرد سيف لا يقطع سوى العمر والكاتو، وكنت أعتقد أن الريح لا تحمل سوى غبارها وحدها.. ربما تنكسر من هبوبها شجرة (كينا) معمرة، أو شجيرة مزروعة على عجل في موسم محافظاتنا الرشيدة بحملة لمكافحة التصحر.
كنت أعتقد أن المواسم مهما أدارتها لعبة الزمن ليست سوى مواسم، وأن الشتاء سيبقى موسماً للخير، والربيع لعودة الروح، والصيف للحب، والخريف استراحة بين موسمين.. كانت أكذوبة بعد أكذوبة، ولحظة افتتان سببها فيلم وأغنية وقبل على شفاه ناديا لطفي طبعها عبد الحليم حافظ في روحها أولاً.
كنت أعتقدها مكررة كلازمة أغنية للأطفال.. ألم نتلذذ كأطفال بترديد (زهرتي يا زهرتي)، أو نشيد في المرحلة الابتدائية يستيقظ فينا كلما قال لنا أحد في مشوار أو سهرة كلمة طفولة، هل سقطت (عمي منصور نجار) من دفتر مذكراتنا، ألم نغنّها حين كبرنا بمتعة أكبر، وقفزنا جماعات بحرية كما لو أننا عشنا مع (هايدي) متعتها في جبال الألب.. لكنها المواسم التي بقيت وصمة عمرنا، المواسم التي كنت أعتقدها مكررة.
على الأرض بعد أن سحبتني كالعادة اللغة المحلقة، على الأرض يستعير رجال الشرطة كما جاء في تحقيق محلي كاميرات محمولة لتصوير المسرعين والذين يقطعون الإشارات الحمراء، كذلك عادت سيارة الشرطة المتوقفة على جانب الطريق العريض بجهاز تصويرها القديم وعنصرها المتثائب، أما الكاميرات الألمانية التي هللنا لها، وكتبت فيها القصائد، وعقدت لها الندوات والمؤتمرات، وتعاقدت على جلبها لنا جهات أرادتنا متحضرين كباقي خلق الله.. الكاميرات الألمانية بلا كاميرات.
لم تكمل كاميراتنا الحول، لم تتعبها المواسم المتعاقبة، فقدت بسرعة غير متوقعة هيبة انتصارها على المتهورين، الكاميرات التي ارتعد من قدرتها سائقو النقل العام والخاص، سائقو الصيني والكوري ومجموع نمور آسيا التي أغرقت شوارعنا بماركاتها، سائقو الباص الأخضر الحكومي، الأزرق والأحمر الذي ينفث دخان الموت رغم تسميته بياسمين الشام، حتى الصفقات القادمة على المازوت والغاز والبنزين والتي ستساهم في حل مشاكل النقل ارتعدت من كاميراتنا قبل أن تصل... لكنها المواسم.. المواسم.
على الأرض تستمر المواسم هنا، استعرنا لها المهرجانات والمعارض، بديلاً عن الديمومة في مشاريعنا الكبرى، فمؤسسة السينما تستعير التظاهرات بدل الإنتاج، لا تنتهي تظاهرة حتى تليها أخرى، من الفيلم التسجيلي، الأوسكار، أفلام السينما الحديثة، أفلام عيد السينما، سينما الواقع BOX BOX... مواسم تتكرر كي لا يكون لنا أكثر من فيلم في العام، كي ننتظر على أحر من الجمر المشهد السنوي في افتتاح مهرجان دمشق السينمائي، فيلم الافتتاح لنا، الفيلم الفائز بالجائزة الكبرى لهم، الوجوه نفسها التي تسكن فندق الشام، الابتسامات ربما يغيرها الزمن بسبب التجاعيد الجديدة لوجوه نجمات السينما المصرية، صحيفة المهرجان لن تتغير، اللقاءات، الكتاب، الضيوف، وكتاب على هيئة معجم... وختام مكرر لموسم سينمائي مكرر.
على الأرض تستمر المواسم هنا، والمهرجانات، المعارض، وزارة الثقافة واتحاد الكتاب العرب يستمران بموسم معارض الكتب، أيار الحالي شهر من التخفيضات على الكتب حتى 60 %، موسم بديل عن مشروعنا الثقافي الذي يتداعى، جيش من الكتاب، وقراء يهرعون إلى العمل من أجل لقمة عيش، وفي المساء يأتي الناس إلى المعرض كفسحة بعد أن اجتهد القائمون باستبدال المركز الثقافي والمدرسة بالحديقة العامة، تأتي العائلة لعل باستطاعة الأب شراء كتاب جماعي للقراءة، أو مجموعة حكايات لطفله بدل ركوب السيارة أو قطار الموت في أحد (المولات)، موسم للثقافة والتنزه، موسم مكرر لموسم ثقافي مكرر.
هنا، على الأرض، مواسم فقط تعوض ما كنا نعتقده ذات حلم ثابت يتسع، مواسم لاقتصادنا وثقافتنا وحتى متعنا.. مواسم تلد المواسم.