مطبات: أعضاء غير نبيلة

نهار دمشقي قاتم وغريب، الهواء الشديد يحمل الغبار وأوراق الأشجار والأكياس في شوارع العاصمة، الناس يغمضون عيونهم تارة، ويفركونها تارة أخرى، والبعض يردد شائعة أن سحابة بركان أيسلندا وصلت إلى دمشق، لكن الحال كما هي، باعة وطلاب.. ومتسولون.

المشهد الذي التف حوله أصحاب القلوب الرقيقة كان استثنائياً، ليس لأن متسولاً ينام على رصيف دمشقي حالة غير اعتيادية، وليس لأن طفلاً مقطوع القدم منظر مفاجئ.. كانتا طفلتين إحداهما نائمة، أما الأخرى المستيقظة فتنتزع من شعر أختها ما علق من ورق وغبار وعيدان من هبوب الريح المحمومة.

لم أغب أكثر من عشر دقائق عن المشهد، انفض المنفطرون مثلي، وقبل أن أصل إلى الفتاتين نهضت النائمة، أنزلت (بنطالها) المتسخ  عن جسد عار تماماً، ثم فجأة نفضت من داخله القدم التي كانت مقطوعة، أمسكت الكبرى بيد أختها وغابتا في مدخل البناء.

لم أستيقظ حتى اللحظة من منظر القدم المسحوبة من البنطال المتسخ، القدم التي دفع من أجلها الكثيرون من مالهم، ومن قلبهم بعض التصدع، ومن لعناتهم على الحياة الكثير، ومن سخطهم على الاقتصاد ومخططيه، ومن كفرهم بالفقر والحاجة، القدم التي من أجلها مسح البعض دموعه بخجل معاند.. القدم الصدمة.

مع كل هذا كان لا بد من سؤال واحد: إن كانت مقطوعة فلماذا؟ وهي ليست واحدة ففي المكان الذي لا يتجاوز 200 متر أكثر من خمسة أطفال على الرصيف بالحالة نفسها، وإن كانت كذبة وهذا ما شاهدته، فمن يصنع هؤلاء الكاذبين الصغار، من يعبث بهذه الأعضاء الصغيرة، ومن يسخّرها لجمع المال من شفقة واستعطاف؟.

على طول الطريق التي تقودني إلى الجريدة أو المقهى، على الطريق نفسها التي تقودني بالعكس مشاهد مشابهة، أطفال يتعلقون بالمارة ويلتصقون بأكمامهم، أطفال يدعون الله بطريقة تفوق زاهداً في مسجد، أطفال حفاة في الحواري التي تقطع الشوارع الرئيسة في الصالحية، باب الجابية، الحميدية، شارع الباكستان، عند المطاعم الموزعة في شارع الجسر الأبيض، عند كراجات الانطلاق من البرامكة التي تعد للفراغ وصولاً إلى السومرية قدرنا الذي رتب على حين غرة.

في الصالحية.. الشارع التجاري الذي تملؤه الماركات الجديدة، والمحال التي تعلن عن تنزيلاتها، وعن وصول بضاعتها الصيفية، ثمة فتيات صغيرات السن يحملن دفاتر جمع التبرعات لجمعيات خيرية، ادفع وتقطع الفتاة لك ما يخرج على رأيها من نفسك للمحتاجين الذين تعيلهم الجمعيات، ومن الممكن أن تطلب منك الفتاة نفسها الطلب نفسه مرتين، عند دخولك الصالحية ولدى خروجك الميمون منها.

الميزان نفسه، أطفال يفترشون الرصيف، مقابل الجامعة، عند التكية السليمانية، الحلبوني، مقهى الحجاز، على جسر المشاة أمام القصر العدلي القديم، شارع الثورة، في المساء كما عند الظهيرة، كما الصباح، لا أحد يوقف هذه الأجساد الضحلة عن استنادها الوادع على جدران المدينة.. من يوزع هذه الموازين الرقمية، ومن يستبدلها بنوع واحد على كل هؤلاء؟.

حول الرجل الذي يمتلك صوتاً يصلح  كمذيع، دائرة من الرجال والفتيان ونسوة يتفرجن من بعيد، كاميرا يابانية بـ100 ليرة، هكذا يبدأ الرجل المزاد، وينتهي عند 200 ليرة، يحمل الرابح كاميرته سعيداً بصيد لن يقدر على شرائه من الوكالة، يسحب الرجل المذيع ساعة ذهب 24 قيراطاً ويبدأ مزاده، 200 ليرة سورية، ضد الحريق، ضد الماء.. ينتهي المزاد 300 ليرة، يحمل السعيد الرابح ساعته وينمم بدعاء هامس، وفجأة بعد سلسلة من المزادات يصرخ الرجل على الناس أن انفضوا، ينصرف الناس الفرحون، يبقى الرجل مع اثنين منهم يحملان معه ما تبقى من بضاعة، ثمة مكان آخر لا يخلو من السعداء بمزاد الصين العظيم.

أعضاء غير نبيلة تحيا وتموت.. في الصباح إلى شوارعنا.. في المساء عند عودتنا من تلك الشوارع.