محمد برادة في «حَيوات مُتجاورة»: رصد دقيق لمجتمع يتخبّط في طريقه نحو الحَداثة
بمقدمة تضعنا أمام تساؤلات وجودية، موقعة من كاتب سها البال عن اسمه، تبدأ رواية «حيوات متجاورة» للكاتب محمد برادة، الصادرة عن دار الآداب بيروت.
يدخلنا برادة لعبته السردية التي سبق وقدمها في «لعبة النسيان» مصرحاً أنه ليس الكاتب المفترض، مطلقاً على نفسه اسم السارد ـ المسرود له، ليجد نفسه وقع في فخ. حيث يسرّب المعلومات والأحداث التي شاهدها وعايشها، وعالجتها الذاكرة، إلى راو آخر، ليقوم هذا بالاستيلاء عليها. حيث يعجز السارد ـ المسرود له عن الاحتجاج والاعتراض، أو التراجع أمام تخييل يعمد إليه الراوي. لكن وبالمقابل ندخل باب حيرة الراوي لتغيب سارد يهيمن على النص. الراوي الذي لا يعرف كيف يبدأ بسرد حيوات تجمعت خيوطها لديه، ويبدأ بطرح الأسئلة الإشكالية، عن علاقة الزمن بحياة الشخوص التي يسرد حياتها. فكيف يستعيد هذا الزمن، وتعاقبه على شخوص، ليسترد كل محكياته، من ذاكرة يشك بأنها تنقل كل ما يسرد بحد أدنى من الأمانة؟
ما يميز «حيوات متجاورة» هو تعدد الأصوات السردية، فبالإضافة إلى أصوات الأبطال الثلاثة، نسمع صوت السارد ـ المسرود له، والراوي. وتتكرر هذه الميزة مع الفصول الثلاثة للرواية. بينما ينفرد الراوي في القسم الأخير من الرواية بسيناريو يكتبه منتقماً من السارد ـ المسرود له مقرراً أن يرد الصاع صاعين، بعد إدراكه أنه لم يكن في العمل سوى (طرطور)، ليترك بصمته على النص، ويخون الأستاذ سميح (السارد ـ المسرود له) الذي رسم له منذ البداية كيف يوجه عمله لسرد تلك الحيوات. يشكل السيناريو خطاً موازياً للنص السردي، بالانتقال من السرد والتخييل إلى عالم الصورة، ليقول مهما لعبت الصورة دوراً مهماً لكنها لا تستطيع أن تأخذ مكان السرد والخيال الخصب. يمشي الراوي بخيانة النص السردي في السيناريو، ابتداءً من العنوان، مطلقاً عليه «حامل اللقب»، محاولاً التخفيف من إيحاء عنوان الرواية، لكنه يقع في مطب إيحاء العنوان الثاني، فالأبطال في الرواية أسماء مبنية على ألقاب.
تتميز الرواية بالجرأة مبتعدة عن الابتذال واللهاث وراء المحرمات والرواج التجاري، حيث تسمى الأعضاء التناسلية للجنسين بمسمياتها العامية وتوصفهما أيضاً، لكنه يهرب أحياناً إلى اللغة الفرنسية لوصف بعض العبارات الأيروتيكية، وكأن اللغة العربية لا تستطيع التخلي عن عفتها أكثر من ذلك، كما أن الرواية تتطرق بشكل خجول للعلاقات المثلية.
الشخصية الرئيسية في الرواية هي (نعيمة آيت لهنا) الفتاة التي تعيش مع والدتها المحافظة، تنتقل من أزور إلى الدار البيضاء لتدرس في مدارس البعثة الفرنسية، وتبني أول علاقة مع صديقها كمال المنتمي إلى الطبقة الأرستقراطية، وتكتشف معه جسدها. منذ البداية تبدو نعيمة المراهقة ممتلكة وعياً مبكراً لجسدها. لكن هذا الوعي لم يُبرر منطقياً في الرواية. تنتقل نعيمة في العمل من مضيفة طيران، إلى موظفة في البنك، وتنتهي الرواية وهي في سجن النساء بعد القبض عليها كزعيمة شبكة للمتاجرة بالمخدرات زجها بها طليقها. التحول الأساسي في حياة نعيمة يحدث داخل السجن من خلال علاقاتها بالنساء اللواتي وجدنها بطلة بعد أن دوخت الدرك الملكي. ينصبنها زعيمة السجن. لتبدأ حياة جديدة داخل السجن، بالرغم من ضيقها منه. نعيمة بصحبة زريعة الكتان تبدآن بالترويح عن السجينات، والمطالبة بحقوقهن وتعليمهن، لتتحول من شخص يقضي على الأجيال، إلى شخص يطالب بحقوق المسجونات. تعطي نعيمة بلسانها أحكاماً قيمية على الحياة التي كانت تحياها، بالرغم من قولها أنها لم تمارس العهر يوماً، لكنها كانت زينة الحفلات التي تقام في صالونات رجال السلطة وبرجوازي البلاد.
نعيمة التي تمثل الشخصية الرئيسية التي تربط الشخصيات مع بعضها، حيث تعرفت على الأستاذ سميح في الطائرة، وأقامت معه علاقة حميمية عشوائية حسب وقتها، لتحدثه عن حياتها حيث يقرر سميح أن يكتبها رواية. نعيمة عرفت الطبقة المخملية وما يجري داخل القصور. تعرفت على الوارثي وحضرت سهراته. وسهلت لسميح اللقاء معه وإجراء حوار ليفضح السلطة من خلال كتابة رواية. الوارثي الشخصية السلطوية. المعروف دينياً وسياسياً وثقافياً. عرف لعبة الحكم، وكيف يمارس السلطة، ويحافظ عليها لخمسة عقود متتالية. يطلق سهرات يسميها «استعادة الحياة» ليتحول وهو بعمر الثمانين إلى رجل لا يطلب من هذه الدنيا إلا الملذات والشهوات التي بقي طول حياته محروماً منها، بسبب مركزه الديني والسياسي.
بحيلة من سميح يجري حوار مع السارد المسرود له ليبوح بكل المحرمات التي عاشها وينتقد حياة ماضية لم يعد راضياً عنها.
«ولد هنيّة»، الشخصية الغائبة الحاضرة التي تربط سميح ونعيمة، ولد في بيئة فقيرة، عرفه سميح من خلال أخته التي كانت تعمل في منزل سميح. ابن لالة هنية لم يتابع دراسته وتنقل في مهن عدة. انتهى به المطاف ليعمل على حماية بار الأمنية الذي يمتلكه الشريف، أحد معارف نعيمة. وهناك يلتقي بشخصيات نافذة في الجيش والسلطة، منتهياً إلى فندق «شهرزاد» حيث يتعرف إلى نعيمة والتي تؤمنه على أموالها بعد دخولها السجن. ويلتقي بنعيمة لقاءات عابرة حميمة مفرغاً لشهوة جسدها عندما تحتاجه. لغة الرواية لغة راقية عالية سردياً تظهر بها مهارة الكاتب وقدرته اللغوية .
رواية «حيوات متجاورة» لمحمد برادة هي رواية الحياة بكل ما فيها من الجنس والحب والألم والخيبة. رواية حيوات آدميين ارتبطت مصائرهم ببعض على الرغم من الاختلاف في التكوين والنشأة والزمان والمكان. صهر بها برادة عدة أجناس أدبية في جنس واحد، ليحقق رواية متكاملة، تغوص في أعماق مجتمع يتخبط وهو يسعى نحو الحداثة لترصد تحولاته وحراكه وتطلعاته.