مطبات هكذا نحن.. هكذا نفكر

لأننا نلوث المدينة بتنفسنا، وبدخان تبغنا المعطر بأنفاسنا الصدئة، وبالغبار الذي تنثره أحذيتنا القديمة، وبانتظارنا المشحون بالثرثرة.. ولسبب صغير آخر هو تخفيف الضغط المروري والتلوث، من أجل هذه الأسباب ما كبر منها وما صغر، قررت محافظة دمشق مدججة باقتراحات مديرية هندسة مرورها نقل كراج البرامكة إلى السومرية.

لأن إدارة مشفى الكلية تقاعست عن طلب دواء مرضى غسيل الكلى، وليس لأن المؤسسة العامة للتجارة الخارجية من خلال شركة (فارمكس) الحكومية لا توفره، مرضى الغسيل القاتل ينتظرون انتهاء الملاسنة الكلامية خوفاً من الموت الذي قد يأتي في أي وقت.

خلقنا الله فقراء، والمثل يقول: الغنى غنى النفس، ونحن من هذا الصنف متخمون، والفقير فقير العقل والدين، كما أن الناس درجات، أما الحكومة فهي لا تترك فسحة لها دون التفكير بنا، ودون أن تذكرنا بأن من أولوياتها رفع الأجور ومنع الاحتكار، والضرب على أيدي المحتكرين، وأن مؤسساتها الاستهلاكية والخازنة في خدمتنا على مدار الساعة، وبأقل من أسعار السوق بـ30 ليرة على الأقل، لكننا.. خلقنا فقراء.

وزارة الإدارة المحلية توجه إنذاراً شديد اللهجة لمحافظة دمشق، تطلب فيه عدم تعيين أي عامل مؤقت أو موسمي أو عرضي جديد أو بدل العمال المنفكين عن عام 2009 وما قبل بالإضافة إلى عدم قبول طلبات النقل أو الندب، وعدم منح تعويض عمل أو كسوة أو إعاشة إلا لمستحقيها، والسبب كما تقول الوزارة: يأتي ذلك نتيجة التضخم في موازنة القطاع البلدي لمجلس مدينة دمشق، والذي بات يشكل أكثر من ثلث الموازنة، نتيجة لقيام المحافظة بتعيين أعداد كبيرة من عمال النظافة بعامي 2007 و2008 بسبب احتفالية دمشق كعاصمة للثقافة العربية، وعدم قيام المحافظة بفك هؤلاء العمال لكونه تم تعيينهم لمدة محددة؟... هذا ما فعلته بنا احتفالية دمشق.. ويشكو جيل بأكمله من البطالة.

ينتحر الشباب والأطفال لأسباب تافهة، لمشهد مؤثر في مسلسل تركي أو سوري معاصر، لرسوب في امتحان، لقسوة امرأة مثيرة، أما الكبار فيقتلون أنفسهم لصفقة خاسرة، للهروب من المقاضاة بسبب رشوة سريعة أو بطيئة، لديون لا تطاق ولا تسد، والقاموس الاقتصادي السوري فائض بالمؤشرات.. النمو، الاستثمارات، الخطط الخمسية، توفير فرص العمل لعشرات الآلاف من طالبي العمل والعاطلين.

الطبقة العاملة تشكو، عقود إذعان، استقالات مسبقة، عمال خارج التأمين والحماية، أبواب موصدة، أرباب عمل لا يخشون من أحد، ضمان صحي مجرد مشروع، شركات تتقاعد، مصير مؤكد للشركات المترنحة مع عمالها، العامل إما إلى شركة أخرى، أو وزارة لا تحتاجه، أو إلى البيت زوجاً طائعاً... لكن الحكومة ومجلس الشعب يدرسان ويناقشان قانون عمل جديد، والتسريح التعسفي، والتسريح المبكر الذي يخشاه نقابيو الصف الثاني في اتحاد العمال لأسباب منطقية وخاصة.

الباحثة النفسية والتربوية في البرنامج الصباحي (نهار جديد) تناقش قضية عمالة الأطفال كما لو أنها قضية طلاق، والمذيع والمحرر يتذكر ببساطة كل الأسباب التي تتنامى بسببها هذه الظاهرة لتصل إلى المشكلة، تزور الكاميرا المعامل، ورش الحدادة والميكانيك، وربما الوقت لم يساعدها لترصد أطفال الميزان، والمتسولين، مقطوعي الأرجل بسبب استثمار العاهة، بائعي الدخان، المستغلين جنسياً... لكن لا أحد يمكن أن يسأل لماذا تنامت هذه الظاهرة؟ ولماذا يرسل الأهل أبناءهم إلى الشوارع، إلى مستثمري العاهات، إلى التسول.. أين دور الدولة، المجتمع، المؤسسات ذات الصلة؟

هكذا بكل بساطة نناقش كل قضايانا المستعصية، وهكذا نفكر في حلها، وبالعقلية نفسها التي لا تقبل إلا صوتها، صوتها الوحيد وإن تحرر صداه فقط نحل مشاكلنا، البطالة لا يقابلها فرص عمل، الفقر لا تقابله زيادة الراتب وخفض الأسعار... الميزان الرابح، والنمو، والسياحة المتطورة، والاستثمارات الكبرى، والخطط الاقتصادية القصيرة وطويلة الأمد.. نقابلها نحن وأحوالنا. 

 ■ عبد الرزاق دياب