الشارع بوصفه برلماناً شعبياً
ما انفكت الأحداث الجارية تؤكّد أن هناك تهميشاً شديداً للشارع العربي تحد من فاعليته، وتثبت أنه عُمل الكثير لإظهاره على أنه شارع مهزوم وخارج دائرة التأثير، بينما تساهم شوارع العالم الأخرى في صنع القرار السياسي أو توجيهه.
هذا أمرٌ بحاجة إلى بحث سيكولوجيّ سوسيولوجيّ يحفر في أعماق شخصيتنا الجماعية والفردية التي حُكم عليها بالسلب للاكتفاء بالتفرج فقط، فالتّاريخ المعاصر ألقى بحمولة ثقيلة من القسر والقسوة جعلت معظم الأحزاب السياسية مرايا للسلطات وبدون أيّ تأثير عام، إضافة إلى غياب المثقف الثوري المؤهّل لتحفيز الجماهير، ونجاح العولمة، في مختلف جوانبها، في جعل الإنسان ذا بعد واحد.. كله ساهم في غياب الوعي السياسي عن الشارع بوصفه مكان التغيير الأول.
خلال الحدث العالمي الكبير الذي صاغه «أسطول الحرية» لم نرَ تحركاً شعبيّاً بالمعنى الحقيقي، حيث مثّل هذا الحدث فرصة نادرة لإحياء تقاليد الشارع السياسية من تظاهر وإضراب واعتصام.. لأنه حدث جامع ولا خلاف حوله. ربما بسبب الدرجة العالية من الــ«تفأرن» و الـ«تأرنب» التي تواطأ الغرب والنخب الحاكمة في الشرق لإيصال نسبة كبيرة من الناس إليها في حربهم اليومية، غير المضمونة، من أجل الرغيف، والتي باتت تشعرهم بحياد قسري كبير. كما أن المثقفين الذين اعتادوا تبديل المواقع لم تعد لهم إلا هموم مصلحية فقط، إضافة إلى قطيعة الأحزاب مع الناس، والعكس بالعكس، لأسباب معروفة.. هذا وذلك جعلا الحدث يقتصر، هنا في دمشق، على إشعال الشموع من جانب بعض الشباب النشطاء.. لا شكّ أن أي نشاط في الشارع مهم وثمين لكنّ تقليداً كإشعال الشموع لا يمكن تصنيفه إلا في بند أضعف الإيمان، والمشكلة الحقيقية هي الاقتصار دوماً على أضعف الإيمان، وهو ما يميّع الهمّ لأنه يبدو أقصى ما يمكن، في حين أن النشاط يجب أن يأخذ أمدية أوسع وأكبر، ولعل تكراره بهذه الطريقة، وكأنها الوحيدة، يجعله أقل جدوى بكثير من المرتجى إعلامياً وشعبياً.
وخلال الحدث نفسه عادت من جديد تلك الكتابات التي تعود مع كل أزمة سياسية لتتحدّث عن كون الشعب العربي غير جدير بشيء، ولا يستحق أن يكون!! وما يثير الحنق ضد هذه الكتابات وأصحابها هو الذهاب الدائم إلى إعلان البراءة من الشعب، في تغاضٍ مؤسف عما تعنيه هذه الكلمة المقدّسة، والأسئلة التي يتجاهلها المتبرئون: ما قيمة المثقف الذي يغسل يديه من شعبه؟ ألا يعني هذا أنه يغسل يديه من نفسه؟ ما الذي سوف يكتبه؟ ولمن؟ لمَ لمْ يتعب قليلاً في سبيل تقديم رؤيا لإعادة بثّ الروح بدلاً من تأبينها؟؟ لمَ لم يأخذ على عاتقه خلق بدائل فكرية وعملية بدلاً من تسليمه بالسكونية القائمة؟
المطلوب سياسياً وثقافياً واجتماعياً هو إعادة ثقافة وتقاليد الشارع إلى الواجهة، وإعادة الاعتبار إليه كي يكون برلماناً شعبياً، حتّى تتوقف عمليات تحويله إلى مسرح دمى متحركة في المناسبات (المعروفة للجميع) التي تتكرر بين حين وحين بطريقة تزيد من الكفر به.
الشارع كان، وسيعود، منبراً للمطالبة بالحق، وميداناً للدفاع عن الحق، ومقبرة لكل طاغٍ أو غازٍ ممن يريدون سلبنا الحق.. هكذا سيكون حين نؤمن به!!