أنطـولوجيـا الــنثر (2 / 2) وداعاً أيتها الأشجار!
كثيرٌ من نقّاد الأدب يجزمون أن هذا زمن النثر، لذا تراهم يحتفون بالرواية بوصفها ملحمة العصر الحديث. والنثر يستحق هذا التمجيد لأنه استطاع التعبير عن روح زمننا المعقدة باقتدار لا يستطيعه الشعر بحكم طبيعته.
يقولنا النثر ويروينا.. يلج أعماقنا وينضح رغباتنا، لأنه متشرّب بالتجربة الإنسانية وقوّة رغبة الوجود!!
ونحن البشر نثر مرسل، مرة نتخذ شكل حكاية، ومرة أخرى نكتسي حلة تاريخ.. هكذا يكون النثر مرآتنا وصورتنا في زحمة هذا العالم الذي يحترف إخفاء الوجوه.
هنا تجوال بين نصوص نثرية من مختلف لغات العالم، نقدمها كنوع من الاحتفاء بالنثر وفنونه..
إدواردو غاليانو ـ الأوروغواي
ولد في مونتيفيديو عام 1940. يتميز غاليانو بكتابة نوع سردي خاص يجمع بين مزايا القصة والمقالة واللقطة الشعرية، غالباً ما ينطلق من فكرة أو صورة أو حدث ليقدم لنا نصاً ينبض بالحياة.
من أشهر أعماله: شرايين أمريكا اللاتينية المفتوحة، ذاكرة النار، كتاب المعانقات، كرة القدم في الشمس والظل، أفواه الزمن.
النحات والأطفال
أتناول العشاء مع نيكول وأدوم. تتحدث نيكول عن نحات من معارفها، موهوب جدا ومشهور. يشتغل النحات في مرسم شاسع، ويحيط به أطفال. فكل أطفال الحي أصدقاء له.
في أحد الأيام كلفته المحافظة بنحت حصان كبير ليوضع في إحدى ساحات المدينة. وأحضرت شاحنة كتلة الغرانيت الضخمة إلى المرسم وشرع النحات في نحته بالمطرقة والأزميل، معتليا سلما. وكان الأطفال ينظرون إليه وهو يعمل.
ثم ذهب الأطفال في عطلة، بعضهم إلى الجبال، وبعضهم إلى البحر. وعند عودتهم، أراهم النحات الحصان الذي انتهى من نحته. فسأله أحد الأطفال بعينين مفتوحتين على أشدهما:
- لكن.. كيف عرفت أن داخل تلك الصخرة كان يوجد حصان؟
جوزيه ساراماغو ـ البرتغال
ساراماغو (1922ـ 2010) الذي رحل عن عالمنا منذ فترة وجيزة هو أول برتغالي يحصل على جائزة نوبل العام 1998. قبل شهرته عمل في مهن متعددة لكونه لم يكمل تعليمه، لكنه كان يواظب على تثقيف نفسه.
من رواياته: سنة موت ريكاردو ريس، تاريخ حصار لشبونة، الطوف الحجري، العمى، أرض الخطيئة، كل الأسماء، الآخر مثلي..
من محاضرته أمام الأكاديمية السويدية لنيل جائزة نوبل
اقتربت جدتي منا، ووضعت أمامي إبريقاً كبيرا من القهوة، وبعض أقراص الخبز، وسألتني، إن كان نومي مريحا الليلة الفائتة، وكنت أقص عليها أحلامي الرديئة التي تستولدها حكايات جدي. وكانت غالبا ما تطمئنني، وتقول لا تحلم كثيرا فالأحلام لا صلة لها بالواقع. في ذلك الوقت فكرت أن جدتي هي الأخرى، امرأة حكيمة جدا، بيد أنها لا تصل إلى مصاف حكمة جدي الذي ينام تحت شجرة التين والى جانبه حفيده خوزيه. ويستطيع أن يحرك العالم بكلمات قليلة. وبعد مرور سنوات رحل جدي إلى مثواه الأخير. وفي ذلك الوقت كنت قد أصبحت راشدا، وأدركت بعد كل ذلك أن جدتي تؤمن هي الأخرى بالأحلام، ولم يكن لديها ثمة سبب آخر، غير الجلوس أمام كوخها، إذ أنها تعيش وحيدة الآن، ومافتئت وهي تحدق في النجوم الكبيرة والصغيرة المبثوثة فوق رأسها تردد هذه الكلمات :» العالم جميل جدا، ومن المؤسف جدا ان يغادره المرء!» بيد أنها لم تقل أنها تخاف الموت، ولكنها تأسف لأنها تغادر الحياة . كما لو أن حياتها الصعبة وعملها الشاق في تلك اللحظة النهائية تستقبل فيها نعمة السمو وكلمات الوداع الأخيرة. ومشاهد الجمال الأخير. وكانت تجلس أمام الكوخ وهي لا تشبه أية امرأة أخرى في كل العالم، كما كنت أتخيل أناسا يعيشون فيه وينامون مع الخنازير الصغيرة، كما لو كانت هذه الحيوانات أولادهم. والناس يأسفون على مغادرة الحياة لان العالم لديهم جميل؛ وجدي خورونيمو راعي الخنازير وسارد الحكايات، كان يحس بالموت يقترب منه ليقتطفه مما يدفعه إلى أن يقول للأشجار: وداعا أيتها الأشجار! ويروح يعانقها واحدة بعد الأخرى، والدموع تنهمر من عينيه ذلك لأنه يدرك انه لن يراها مرة أخرى!
أنطون تشيخوف ـ روسيا
هو أنطون بافلوفيتش تشيخوف (1860-1904) طبيب وكاتب مسرحي ومؤلف قصصي روسي كبير، عد من كبار الأدباء الروس كما أنه من أفضل كتاب القصة القصيرة على مستوى العالم، كما أن مسرحياته كان لها أعظم الأثر على دراما القرن العشرين. من مسرحياته العظيمة: النورس، بستان الكرز، الخال فانيا، الدب.. أما قصصه فهي تعد بالمئات ولا تزال دور النشر العالمية تخرج علينا باكتشافات جديدة من كنوز هذه القارة الأدبية العظيمة.
من دفتر اليوميات
روسيا سهل شاسع يجوب أرجاءه التعساء.
**
قالت الجدة: «إذا أضعت هذه التعويذة فسوف تموت». وفجأة أضعتها فعذبت نفسي وخفت من الموت. والآن، تخيل، وقعت معجزة: لقد عثرت عليها وبقيت على قيد الحياة.
**
يخجل الرجل اللطيف حتى أمام كلب.
**
كلما قرأ في الجريدة عن موت رجل عظيم ارتدى ثياب الحداد.
ثروة
منذ أربعين عاماً عندما كنت في الخامسة عشرة من عمري عثرت في الطريق على ورقة من فئة الجنيه، ومنذ ذلك اليوم لم أرفع وجهي أبداً عن الأرض. وأستطيع الآن وأنا على حافة القبر أن أحصي محصول حياتي وأن أسرده، كما يفعل أصحاب الثروات، 2917 زراً، و34172 دبوساً، و12 سن ريشة، و3 أقلام، ومنديل واحد، وظهر منحن وحياة بائسة.