«عيون الزّجل وعيون الوادي»: الريف في مرايا الشّعر الشّعبي
ينال الأدب الشّعبي بكل أنواعه حظوة كبيرة لدى النّاس، كونه وليد بيئتهم وترجمان أحاسيسهم ومرآة أقاصيصهم اليوميّة ومتنفّس نفوسهم، وأداة تصوير وقائع حياتهم وفلسفتهم بها. ولا يقتصر على المحكي منه بل حتى الفصيح، وجذوره عميقة في تاريخنا، وتأتي أهميته من قدرة الشّاعر على تطويع الكلام ليعكس الواقع بأمانة وبساطة وبمفردات يفهمها الجميع، وهو أدب عالمي، فلكلّ شعب أدبه الشّعبي الذي يكشف شخصيته وسلوكه الروحيّ والنفسيّ، وما يميزه مرونته وقدرته على التطور ومواكبة العصر مع احتفاظه على نقل صورة الشّعب بمعتقداته وتقاليده وأساطيره..
هذا كان فحوى مقدّمة ديوان «عيون الزجل وعيون الوادي» وهو عبارة عن مختارات ممّا أوحته القريحة الشّعريّة للشّاعر الحسّاس الرفيق د.جبّور جبـّّور. الدّيوان يحتوي أنواعا مختلفة من الشّعر الشّعبي (زجل، معنّى، قرّادي، قصيد..) قام بجمعها وتنسيقها د.جودت إبراهيم. ومن العنوان المبتدى... فقد ربط شاعرنا جلّ ما نظمه من زجل وشعر بعيون الوادي، تلك القرية الوادعة التي تغفو بين جبالنا على مقربة من وادي النّضارة، تترقرق منها الينابيع العيون وتتوزع في الأرجاء رسائل حبّ وسحر وحياة، فهي أيقونة الخصب والجمال وبساطة العيش، فيتسلّل إلى رئاتنا عبير نضارتها من بين كلماته وصوره التي جاءت مركّزة وكثيفة في آن، كدليل على اقتدار في نسج الصور وإرسالها بلا تكلّف أو تصنّع، وهذا جوهر الشّعر الشّعبيّ.
تتناثر الصور في (41) نصاً لا تفرغ من قراءتها حتى تطلب المزيد، يبدؤها ببيتين عن عيون الوادي التي قدّم الإهداء لها:
الله من عرشو تجلّى وقلاّ للدنيا تتكون
وأوّل ما اتطلّع الله وقعت عينو عالعيون
يعالج الديوان مواضيع بيئة تلتصق بشدّة الرّيف الجبليّ ألا وهي: القرية بوصفها مسرحا لجمال الطبيعة والإنسان وبساطة الحياة، وطرافة القصص النابعة من بساطة أهلها -الريف معقل للثورة ضد الاستعمار والأدلة كثيرة-التراث الروحي لأهل الريف -معاناة الاغتراب- تكريم الآباء والأجداد، إضافة إلى وجدانيات ومنازلات شعرية هي أطرف ما فيه..
-يصوّر د.جبّور «العيون» في شتاء عام 1941 بطريقة أقرب إلى الفصاحة بصور قصيرة ومركّزة:
الطّقس بارد والدّني مسحة غروب
والناس عم بتعرجل سطيحاتها
وصوت المداحل هزّ أوتار القلوب
نغمة حزينة ملفلفة بآهاتها
وقد لمعت الثـّورة في أكثر من موضع ففي قصيدة «الشعب الجبّار» تأتي كلمات الشاعر رداً على حملة أمريكية شرسة على سورية عام 1958:
قْهرنا الظلم مْحينا العار ع يد الشّعب الجبّار
يا أمريكي لزوم الحد بلادك أوسع مبلادي
اليوم اتوحّدنا عن جد رغماً عن أنف الدولار
ويصوّر حالة الفقر وضيق ذات اليد الذي كان يخيّم على الريف أيام الإقطاع، وتبرز كلمات محلية تخص البيئة الزراعية (حصيرة- غربال- ميزر- جاروش..)، وقد كان لأبيات العتابا قسط وافر كون جمالية الشعر الشعبي لا تكتمل إلاّ بالغناء واللحن الذي يضبط وزنه. ومن هذه العتابات ما قاله الشاعر في معاناته من إصابة بطلق ناري في ساقه:
ألا يا مصيبتي من الجسم فُـلّين
جعلتي هيكلي عيدان فلّين
اعملي بالرفق ثم العطف فالّلين
عسى يرتاح جسمي من العذاب
هذا وقد غلبت على الديوان قصائد على شكل مراسلات ما بين د.جبّور وصديقه المغترب في أمريكا، فمرّة عتاب، ومرة دعوة للعودة، ومرة منازلة شعرية خالصة، ولعلّ أطرف ما جاء فيها:
وحياتَك يا بو نقولا قلتا ولسّاني بقولا
شربة من تم القرعوب ولا بركة بيبسي كولا
والقرعوب إحدى ينابيع العيون الكثيرة.. ومن الطريف أيضاً كيفية وصف بطولة أهل الريف «قصيدة الضّبعة» التي تروي قصة صيد الضبعة التي هاجمت القرية، فتتحول إلى أهزوجة شعبيّة تؤرخ الحادثة وتخلّدها، فيبدأ بوصف الجو في ذلك اليوم:
بين السما والأرض مرجوحة مطر
والرّعد يقصف والبرق ياخد صور
ثم يصف قتل الضبعة، وتبدأ قصّة تقاسم الغنيمة بطريقة الأهزوجة الشعبية...
ديوان رغم قلّة نصوصه إلاّ أنه غني بهوى ريفنا الجبليّ الأصيل، الذي ما برح أريجه بالفوح من بين ثنايا الكلمات خاصّة عندما يعدد شاعرنا ما تزدان به القرية من أشجار وإنسان اكتسب جماله من جمال ما حوله:
حرشة بطم وجبال مسمرّة
مزنّرة بوديان مخضرّة
وحلوة مكحّلة بالميل
وعاكتافها عم ترقص الجرّة
هناك صور عديدة تحث القلم على نقلها لو كان هناك متّسع مع هذا المؤلَّف الذي لا نشهد فيه الحداثة التي نتلقّفها فيما يعرض تلفزيونياً، بل هو تقليدي يصوّر أكثر ما يدهش، فيشكّل لوحة بألوان الفصول الأربعة مطليّة بريشة الشعر الشعبي، الذي يتلاشى مع رتابة العصر وسرعة إيقاعه وهمومه اليومية..
أمدّ الله في عمر الشاعر د. جبّور وأعطاه الصّحة لكي يمدّنا أيضاً بالمزيد الذي ما يزال يحتفظ به، والذي لم يكتبه بعد...
بطاقة تعريف:
-د.جبّور ولد في عيون الوادي 1931 من عائلة فقيرة مكافحة،انتسب إلى صفوف الحزب الشيوعي مبكراً،وهو من أشد مؤيدي وحدة الشيوعيين السوريين،وهو القائل:(لا أستقبل أحدا في بيتي لا يؤمن بوحدة الشيوعيين السوريين)،سافر إلى الاتحاد السوفييتي1959للعلاج من طلق ناري في ساقه،وبعد العلاج انتسب إلى المعهد الطبي الأول في موسكو وحصل على الإجازة بالطب البشري،وعاد ليعمل في مشفى المجتهد بدمشق،ثم انتقل إلى المركز الصحي في مشتى الحلو حيث عمل فيه 30عاماً،وتولّى مهمة الطب الشرعي في المنطقة طيلة هذه الفترة،اشتهر بإنسانيته وحبه للزجل وحس الفكاهة ونوادره متداولة في المنطقة، وهو الآن يرتاح في بيته متقاعداً.