جبرا إبراهيم جبرا بيت تموز ينهار في المدينة

لم يكن جبرا إبراهيم جبرا يعلم، عندما شيد جدران بيته لبنة لبنة، أن يداً أصولية ستقوم بتقويض ما اعتبره على الدوام متحفه الشخصي. تلك اليد التي تعود لكائن يتحكم بهذا العالم، بأذرع أخطبوطية، إحدى هذه الأذرع إمبريالية، وإحداها أصولية يخفيها كما اليد المبتورة، لتقوم بين الحين والآخر بتنفيذ ما يرغب، دون أن يستطيع أحد توجيه إشارة شك واحدة إليه. والأذرع الأخرى تعددت تسمياتها حتى بات العالم لا يميز بين واحدة وأخرى، فذراع الرحمة والإنسانية بمنظماتها العالمية تشكل ذراعاً لذلك الإخطبوط العملاق. نعم لم يخطر ببال ذلك الكاتب والإنسان، صاحب الشخصية الإنسانية، أن المفارقة الغريبة ستنهي بيته بشارع المنصور في بلد اللجوء، بالطريقة نفسها التي أزيلت بها بيوت أبناء بلد المهد، لكن باحتلال أنغلوسكسوني جديد.

المبشر بالثورة، والداعي إلى الوحدة الوطنية والتجديد، وضع ركائز القصيدة التموزية العربية، وكان أحد أهم أعمدة تلك القصيدة، التي ركزت على المدينة. المدينة التي تميت البطل الباحث عن الحياة، لكنه ينتصر على الموت، ويعود إليها مجدداً. ألا يمثل ذلك إيمانه الكامل بالعودة إلى فلسطين. دولة فلسطين التاريخية دون اعترافات مذلة بدولة الاحتلال.

الفلسطيني/ العراقي رسم المدينة المفقودة في كتاباته، ورحلة التيه التي يواجهها شعبه. أحيا جبرا هذه المدينة في أدبه. ظل يطرح على الدوام قضية الهوية والكينونة. ربما هذا ما جعل ذلك الكائن ينتفض، من مدينة مازال يحاول شطبها من جغرافية الإنسان، فتتجلى له في كل مكان، لتبقى في خيال الأجيال إلى الأبد. لذلك كان واجباً عليه تدمير تلك المدينة، الخالية من سكانها الأصليين واقعياً، والمسكونة وجدانياً وتاريخياً، قبل أن تمتد جذورها إلى المستقبل.

لكن رغم أهمية جبرا إبراهيم جبرا، ليست القضية تفجير منزله  وحسب، ولا هي تدمير نفائس أدبية وفنية وتاريخية، تمثل مرحلة هامة في الثقافة العربية. القضية أعمق من ذلك بكثير.

إنها المحاولات المستمرة لمحو الذاكرة العربية، والتراث الممتد إلى آلاف السنين. محو الذاكرة يتيح للغزاة تدمير الهوية، والسيطرة، وإعادة بناء أصحاب تلك الهوية بالصورة التي يريدونها.

إنها العراق.. العراق المنهوبة، التي تتعرض لإتلاف مكتباتها، وللمرة الثانية بهذا الشكل الهمجي. من منا ينسى هولاكو الذي رمى مكاتب بغداد في نهر دجلة؟ إنها نهب المتحف العراقي، وتدمير آثاره، وهدم تماثيله وتهريبها إلى متاحف عالمية. كل هذا لتغييب الدور الحضاري العتيق، الذي مثلته العراق، لرسم تاريخ جديد لبلاد ما بين النهرين، وتدمير معالمها التاريخية.

إنها فلسطين.. فلسطين التي تتعرض منذ اثنين وستين عاماً وحتى اليوم، لعمليات تدمير وتشريد وسرقة وتزوير. محو تراثها العربي الفلسطيني عملية إجرامية، غايتها أن تفقد ذاكرتها، اسمها، وشعبها. فلسطين التي فقدت المدن والقرى والإنسان، لتغيير الأسماء، لتهويد الأسماء، لتغييب الهوية، وصولاً إلى محاولة سلبها الفلافل تلك الأكلة التي ستنتقل إلى العبرية، وبقرارات الأمم المتحدة التي حاولت التعويض للفلسطيني اللاجئ، عن وطنه وأرضه وبيته وأشجار زيتونه، ببعض المعونات الغذائية وبعض علب الواقيات الذكرية لتحديد النسل. 

إنها العرب جميعاً.. إنها نحن.

إنها الاحتلال.

إنها إحراق المكتبة العربية بما تحمله من فكر وتراث.. إنها نهب مركز التراث الفلسطيني لاغتيال الذاكرة التاريخية الفلسطينية، وقطع جذور الفلسطيني بأرضه. فلقد أدركت الصهيونية والامبريالية مبكراً أهمية التراث لشرعنة وجودها. وتغييب ذلك التراث من ذاكرة الآخر المسلوب الوطن وقطع جذوره بالأرض، لكنها نسيت أن الإنسان لا يشبه الشجرة بجذور لا تمتد إلا بالتراب إن جذور الإنسان الفلسطيني امتدت في الكون بأسره واختلطت بهوائه.

إنها تمتد لابن رشد صاحب المشروع التغييري، المشروع الذي حوصر أيضاً بنيران التهمت كتبه خوفاً من انطلاق جديد.

كل ذلك لخلق جيل دون ذاكرة، لطمس هذه الذاكرة، لإخراس حتى الشفوية منها.. لتمرير مشاريعهم وتنفيذ مصالحهم، دون أن يجرؤ باقي العالم إلا على فعل واحد هو الصمت. والصمت هنا ليس من ذهب.

هل هذه الأعمال لأحد إلهي الخير أو الشر، إذا افترضنا منطقياً أن عملهما متعاكس مباشرة كمبدأ الفعل ورد الفعل. والنتائج والبراهين تؤكد بحجة عقلية أن كل هذه الأعمال تخص واحداً منهما فقط. فأين عمل الثاني؟؟ بعيداً عن ثنائية الخير والشر، إن هذه القدرية لا تشكل عكازاً، نستند عليه لقبول ما يجري، دون أن نقوم بشيء.

كم نشبه في هذه الأوقات ركاب سفينة جبرا، يحيط بنا البحر من كل الجهات، و ليس أمامنا إلا نبش الذاكرة، وسرد قصصها، لنشعر أننا مازلنا على قيد الحياة.