بين قوسين: العدسة المفتوحة باتساع!
قد تستغرب ذلك الزحام على أفلام «أيام سينما الواقع»، التي تشهدها دمشق هذه الأيام، بوصفها أفلاماً تسجيلية.
مئات الشباب يتدافعون أمام صالتي الكندي والزهراء لحجز مقعد ومشاهدة فيلم لمخرج مجهول غالباً. هنا لا حبكات هوليودية، ولن نجد نجوماً مشهورين، بل بشراً مجهولين في معظم مقترحات هذه السينما. الواقع بكلّ مرارته وأوجاعه دون رتوش، ذلك ما تلتقطه عين العدسة بنهم وشهوة، وإذا بالألم لغة عالمية توحّد حياة هؤلاء البشر. أفلام تقتحم العشوائيات والأرياف البعيدة، ومكابدات المخيمات الفلسطينية في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي، وآثار الحروب على خرائط ممزقة، إلى هموم أطفال يعيشون في العراء. كلّ هذه العناوين نواجهها في أفلام الواقع. لا يحتاج المخرج التسجيلي إلى خيال واسع ونسج قصص متخيّلة ولا حتى ميزانيات ضخمة، يكفي أن يحمل كاميرته ويؤرشف حكاية ما عن أشخاص نعبرهم كل يوم دون انتباه. لكلّ شخص حكايته التي تصلح للسينما من الطفل المشرّد إلى سائق التاكسي والبائع المتجوّل إلى المرأة التي تعيش عزلتها الاضطرارية، وتلك التي تبحث عن فرصة عمل من دون جدوى. عناوين وأفكار تنطوي على نظرة هجائية لواقع يزداد بؤساً ووحشية، تتخلله أحياناً نسمة هواء، فتلتقطها العدسة بكل سحرها وتؤلف قصةً منها، تبدو للوهلة الأولى أنّها لا تصلح للسينما، لكن ارتجال الأشخاص ونبش داخلياتهم هو من يرمم المعنى ويمنحه القدرة على الإقناع.
أينما التفتنا ستشدنا الحكاية في أكبر ظاهرة للسينما التسجيلية التي تبدو اليوم وكأنها أكثر إغراء وصدقية من الأفلام الروائية. حكاية يرويها أصحابها مباشرة بما يشبه الاعترافات، فتأتي جارحة وتحمل نبض الواقع بكلّ خشونته ودمامله وانكساراته.
لنقل إنّ السينما التسجيلية تعمل وفق عبارة الجاحظ «الأفكار مرمية على الطريق» ولا تحتاج إلا إلى عدسة تقوم بتظهير الصورة، ففي هذا النوع من الأشرطة يكفي أن تدير الكاميرا حتى تجد ما تبتغيه. وهكذا فإن لمسة صغيرة ستحوّل ما هو عادي ومهمل إلى فيلم. بعيداً عن الأفلام، سننتبه إلى عطش الجيل الجديد إلى السينما الحقيقية وانخراطه بمقترحات مختلفة، لم تكن متاحة أمامه في الأوقات الأخرى، وتالياً ليست المشكلة في غياب الصالات وحدها، بل في السينما الغائبة.