النديم  بوترابة   (إلى طبيب سوري..) النديم بوترابة (إلى طبيب سوري..)

بمزاج من يسهر على لذّته..

اليوم... سلف الحين الفاسد ومثوى الهاوية إلى مستقبلها، اليوم كينون ناشفٌ أي أنه لا يُملأ إلا ساعة انبلاجه بقليل، لذلك لا يليه إلا كينون ناشف آخر، فكل يوم  كوناً يجرب السوريون في بدايته الأزمة من جديد، لذا فــ (اليوم) هو آخر ما توصل إليه السوريون أو حتى رؤوه، لاشيء غير اليوم هو كفسحة من عراءٍ ملأها عراءً فلاحٌ نفذ وقوده، لكن ليس لكل زمن أن يستعير (اليوم)، فلليوم علاماتٌ كـ(ابن الجَلى) يُعرف بها، وله ألبوم من التعريفات فاليوم: هو كل ما يزحف الرمل عليه دون الابتلاع وتغادر مُدَنه كل ما يتكفل ببنائها: القططُ والأشباحُ وعيونُ السائقين المزدحمة أكثر من دروبهم..

كل النصوص بعد هذا الهزيع ستبدأ بفرد(اليوم) فهو مفاجأة للعدم المهيمن، فأن يكون في سورية هناك (اليوم ) يعني هناك (الآن)، والآن انتصار في رهنية الأزمات ذات الشقوق التي تفلت الكوابيس منها إلى الواقع فتأكل تلك الكوابيس أول ما تأكل بغريزتها كبد الذاكرة، فتنسيك والذاكرة تُلاك بين أنيابها أن انفجار الأمس لم يكن في حيِّك وهذه الأشلاء ليست لك، فتبكي بجهلك على ذاتك القتيلةِ أمام ذاتك الحائرة من هذا الانفصام الغريب لتمضي ذاتُك ذاتُها مفجوعة بخسارة ذاتك، لذلك ننتظر بأزمتنا (الآن) لأنه بآنيته الواقعية يخفف انتفاخ الأوهام ويساعد في استذكار وترتيب الأهوال لا استنشاقها..

تستحق أزمتنا الشبيهة بلغة منزاحة عن ألفة القارئ رفعة الملحمي، رفعة المرثية الكبرى، فالبشرية الكهلة تمسِّد في سورية شاربيها الثلجيين بروية وتواتر الإعجاب إيذاناً لمعارك السرديات الكبرى على المبسوطة السوريّة، وبهذا ليس تنبؤاً  أوشعوذةً خروج مغمورٍ ماسيقدر له كتابة الملحمة الأخيرة ( كعادة كل شعراء الملاحم ) ملحمة سيبقى عنوانها: الملحمة الأخيرة «The Last Epic»...

عنوان يجب ألا يحيركم كما سيحير أعداءها و نقادها و قراءها و زمنها، لأن الملاحم الأخيرة لا تحمل إلا عناوين مطلقة

................ 

قال فرنسي ذات مرة: «الحياة تستحق أن تعاش وتروى»..

 وقال شاعر كنعاني يوسم بأنثى اسمها ريتا: «و نحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا»...

وقال موسيقي ساخر زارنا في خريف قليل من السنين: «بنّا نكفي مع اللي بقيوا مش علِّي بقيوا»

أتمعن هذا العصر تلك الجمل و أعي خطأً ظلّ يخاصرني طويلاً، أتذكر و أنا سائر إلى (الآن) أنني كنت أقرأ الجزء الأسهل من تلك الجمل و أنحلُ لهذا الجزء ما ليس له، لقد كان الجزء المفضل  لي في الجملة الأولى كلمة (أن تُروى) وكان في الثانية (ونحن نحب الحياة) فهم من ظننتهم يملكون سحر تلك الجمل وهم من ظننت أن الحفر سيكون فيهم لاستخراج احتياط التأويل، أما استحقاق الحياة و أحقيتها واستطاعة السبيل إليها كان قبل الأزمة موجوداً ومهملاً عند كل سوري.. ربما لم تكن تلك الجمل لنا بل كانت أناشيد المغيبين، كانت كلام من خلت أيامهم عن حياتهم، لم نكن ندري أن استحقاق الحياة بذاكرة لا ثمالة فيها أصعب من جزء (أن تروى) وأصعب من جزء(ونحن...).

لكن لماذا يسرد هذا كله!؟

لأن هذا المقال وَفَد برمته ليتكلم مندهشاً عن الذين حتى تلك المجزرة أو اللحظة لم يلحظوا أو يثمّنوا الحياة، الذين لم تسرّ لهم الأزمة إلا التنظير للموت، عندما اختاروا بحب و طواعية صادمة أحد غولي العنف، ولا أتكلم طبعاً عن الذين غرقوا في يقظة ظلمهم، أو عن الذين دهسهم التآمر... و لا عن الذين قبالتهم من يوجعون أفول جشعهم بحك العنف... فهولاء جميعاً لم يعودوا يشبهون إلا ظرفهم.

إن هذا المقال يتفكّر في الذين يسلّعون الأزمة بمزاج من يسهر على لذته، فالأزمة التي نامت على حدود هذا الكون لا تزال تستلقي في قرارة ذاتهم لا خارجها، هذا القرار العليم بأنه البعيد عن كل حال، لذلك يرى في  رشاقة  العنف والدم المزَحلَق أوجه الثوري النرجسي، فاختياره هذا داعب سيرة مزاج ابتدأ بطفولته المسلّعة كرأيه، فبعد سنتين من إيقاظ الجحيم لا يزال هؤلاء يستغلون الوقت بكامل وفورة شهاداتهم العلمية وبكامل وفورة وقتهم البطيء والبعيد عن دم الأزمة في تربية الموت وتفصيله  لباساً سياسياً لهم، أمَا أحقيَة الحياة واستحقاق حبها وروايتها قد أصبح عدماً بعيداً عنهم، فلا فراسخ عندهم تصل إلى هناك، هؤلاء المنزهون عن جدلية الفرز الطبقي ومطموره السياسي والاقتصادي والذين يتبجحون بتجاوز سكونيَة الأحزاب وشكلية البرامج السياسية، هؤلاء هم ذاتهم الذين كانوا يذهبون مع آبائهم إلى محلات البضائع وهم صغار، هناك في تلك المحلات يلحّون في طلب الأشياء ذاتها بإشارة نزقة وبصوت خريري جراء التنفس الكسول من الفم، لكن بعد الظفر كانوا بالنهاية يكتفون بوضع فوضى لِعبهم ولُعابهم العابث على أغلفة تلك الأشياء ذات الألوان المغرية المشابهة لألوان الأعلام...

بعدها يهجرونها على قارعة البيت، إذاً إلحاحهم اليوم على أحد نابي العنف هو دلال كفيف آخر وصراع يتمظهر في سؤال كم يشبه لون هذا العلم أو ذاك ذاكرة تلك الطفولة أو ترسبات دلالها في اللاوعي فموقفهم اليوم الانفعالي المغيب لحتمية الحياة أولاً يشبه حواراً يختبئ في أرشيفهم البكر وقد اعتادوه، وهذا المقال قد يستحضر تلك اللغة التي فشلت بالاختباء:

بابا... اشتري لي الجيش الحر..

لكن مهلاً... في هذا التخيل هفوة، فالمشهد بما أنه طفولي يجب أن يتدرب على التربوي فيصبح:

بابا... هلا اشتريت لي قليلاً.. من الجيش الحر؟!

الأب (بشاربيه السعيدين): هل تريده يا بابا بنكهة الدوشكا !!؟؟

و في مشهد آخر قد يقول طفل آخر ربما كان مع الأول في الحضانة والمدرسة نفسها:

 بابا... هلا اشتريت لي قليلاً من فلول الإرهابيين!!؟.