أشعل شمعة والعن الظلام..

ربما تتذكرون الوقت الذي كانت فيه أكبر كوابيسكم، أن يعاقبكم ذووكم بترككم وحيدين في الظلام، لتصارعوا الوحوش الوهمية المختبئة أسفل الأسرّة، أو داخل الخزائن. ُترى لماذا ارتبط الظلام بالعقاب؟ وما الذي يخسره المرء بفقدان الضوء؟ وهل كانت وحوش الخزائن لتجرأ على مواجهتنا في وضّح النهار؟.

لا يشغل السوريون بالهم اليوم في التفكير كثيراً بمخاوف الطفولة أو تناقض النور والظلام، إلا أنهم وبالتأكيد يشعرون بأنهم معاقبون جماعياً، يعيشون ليلاً لا ينتهي.

فهم الذين استنفدوا خلال الفترة الطويلة الماضية كل حكايا الليل.. وقصص ما قبل النوم، باحوا بجميع الأسرار والأخبار والثرثرات.. التي كان يحلو لهم تبادلها في الظلام قبلاً، ملوا جميع ألعاب خيال الظل، والتحكم بانعكاس أصابعهم وأجسادهم على الجدار. لم تعد الكهرباء بالنسبة لهم مجرد ترف أو ضوء، بل هي الدفء الذي فقدوه مع خلو مدافئهم من المازوت، هي الأداة التي تمكنهم من إتمام أعمالهم لاستمرار رزقهم، وهي أحدى أهم وسائل التواصل مع العالم الخارجي والآخرين بعد أن أصبح الناس حبيسي منازلهم في بلاد تكاد تفرغ شوارعها الساعة التاسعة مساءاً! .

لم يعد انقطاع الكهرباء مجرد باعثٍ على الضيق أو مسببٍ للملل، بل تحول إلى شلل أصاب كل مفاصل الحياة. كما لو أن كل تفاصيل اليوم مرتبطة بزر التشغيل ( أون- أوف).  في الوقت الذي تغيب فيه الكهرباء ويسود الظلام، ينشغل الجميع بوضع خطةٍ محكمة لكيفية استثمار «الوقت المكهرب» القادم .. في البداية تشغيل سخان الماء .. ثم غسل كل ما تراكم من ملابس متسخة.. الالتصاق بالمدفأة لأطول وقتٍ ممكن أو مجرد التحديق في الضوء! سماع القليل من الموسيقا لطرد الصمت الذي لف ساعات النهار، تشغيل التلفاز لمشاهدة ما تبقى من نشرة الأخبار التي يظهر فيها وزير الكهرباء مؤكداً أن أزمة الكهرباء في طريقها إلى الحل.. لتنطفىء الكهرباء من جديد مع نهاية النشرة.

ربما يبدو التذمر حول انقطاع الكهرباء وساعات التقنين الطويلة ترفاً لا يناسب بلاداً تعيش ما يقارب الحرب، وتخسر كل يومٍ عدداً كبيراً من أبنائها.. ففي اللحظة التي تنقطع فيها الكهرباء هنا يقتل أحدٌ هناك ويهدّم منزلٌ، إلا أن ذلك هو التناقض المرعب الذي يعيشه عددٌ كبير من السوريين اليوم: ففي الوقت الذي تتعمق فيه الأزمة السياسية، تبدأ الأحاديث والنقاشات السياسية بالتراجع والانحسار، وكلمات كأسعار المازوت وطوابير الخبز وساعات التقنين تجد لها مكاناً لا يزول في الأحاديث اليومية.. أينما تجولت تسمع الحديث ذاته.. كما لو أن الأحلام ضاقت من  أملٍ بتغيرٍ سياسي إلى حلمٍ ببضعة ليترات من المازوت أو بضع ساعات من النور .. ربما يبدو ذلك للآخرين البعيدين يأساً أو ضيق أفق، وربما يطالب آخرون بتجاوز الهموم اليومية التافهة وإضاءة شمعة بدلاً من لعن الظلام.

جرّب فقط أن تواجه عاصفةً ثلجيةً دون دفء أو كهرباء، أو أن يصبح رغيف الخبز طعامك المفضّل، جرب فقط أن تعتاد المشي والتفكير والعيش والخوف في الظلام.. جرّب فقط أن تعيش في خيمة بحيث لا تحتاج أصلاً أن تحصي ساعات التقنين، ثم أخبرنا بعد ذلك إن كنت ستنجح في صياغة تصريح سياسي..