المعري.. الشاهد والشـهيد
عدّ التراثي الكبير هادي العلوي حركة التصوف الإسلامي ساحة للمعارضة السياسية ضد الحكم في أيام الدولة العربية الإسلامية، حركة خارج عباءة الدولة الرسمية التي احتكرت العلوم والتشريع والفن والأدب، حركة عبرت موضوعياً عن البسطاء من الناس من مظاليم تلك الدولة.. والتصوف لدى هادي العلوي أصبح يحمل مضموناً غير الذي نعرفه، فهو تيار فكري وسياسي وفلسفي وأدبي، نظر ضد الدولة والدين الرسميين، وضد المال الذي ميّز ما بين غني وفقير.. أما ما نعرفه عن الصوفية منذ أكثر من خمسمائة عام فيسميه العلوي «دروشة»، وهذا النمط يقلل من شأن العقل على خلاف سابقه، مما أدى إلى انفصال المعارضة السياسية عنه وتحولها إلى بناء مستقل بذاته..
لحركة التصوف الإسلامي مناضلوها، الذين صنفهم العلوي بحسب الوظيفة والدور إلى نوعين، الأول هو المناضل الاجتماعي وهو الذي يربط ما بين فكره وممارسته، فيترجم معارضته إلى موقف سياسي واضح يصطدم به مع الطبقات الحاكمة، ويعبئ الناس ضدها ويحرضهم للمطالبة بحقوقهم ورفع ظلم الحاكمين، ومثال هؤلاء شاعر التصوف أبو منصور الحلاج الذي قطعت السلطة أوصاله، لا لموقفه الفكري- بحسب العلوي- بل بسبب نضاله السياسي. أما النوع الآخر من المتصوفة فهم المناضلون المعرفيون الذين حصروا نشاطهم في الميدان المعرفي، وهو ميدان لم يتعرض إلى بطش السلطات في حينه إلا قليلا. ومنهم أبو بكر الرازي الذي أشهر إلحاده في العديد من كتبه، وأهمها كتاب «مخاريق الأنبياء»، ومع ذلك لم تتعرض له تلك الحكومات الظلامية في حينه..
واللافت أن العلوي، عدّ الشاعر الكبير أبا العلاء المعري من المناضلين المعرفيين، فهو لم يصطدم مع السلطات في حياته لاقتصار نشاطه على الميدان الفكري، فكانت «رسالة الغفران» انعكاساً لتناقضات واقع حقيقي في دنيا الفكر، نصاً جميلاً استعصى على أعتى الظلًّام والحكام والعسس في حياة المعري وبعدها.. إلى أن جاء اليوم الذي حطم فيه تمثال المعري في مسقط رأسه على أيدي مجموعة من التكفيريين الذين أقلقت نفوسهم حكمة الشاعر الضرير ومعرفته، وقد أدركوا أن وجوده شاهداً على انحطاطهم غدا حائلاً دون استمرارهم في غيهم.. فأثبت هؤلاء أن المعري ليس مناضلاً معرفياً فحسب، بل مناضلا اجتماعياً على مر الأحد عشر قرناً التي عاشها.. إذ أن المعرفة لدى أبي العلاء هي ثورة المظلومين والجياع ضد الحكام والمارقين من أمثال هؤلاء..
بقي لنا أن نعتذر من شيخنا هادي العلوي على ما وصلنا إليه، وأن نقول له إن أبا العلاء، المناضل الاجتماعي، قد قطعت أوصاله، مثلما قطعت أوصال الحلاج، وأن نعتذر من أبي العلاء، فقد أقتضى الأمر ألفاً ومئة عام حتى اكتشفنا حقيقته..