شو ما بدّك عنّا ..!
هذه الجملة التي نفحت من عيون شعر الطوابير المخمسة عن الحسد والفشل، جملة بدهاء تجربة الطوابير وبخبرة الخيانات البلهاء، مزيج لعلاج القلق من القادم، فعلى الرغم من كونها تبدو كجملة مفتاحية على باب عالم سفلي إلا أن هذه الجمل وحدها من تأول الواقع ،هي الكوة نحو الداخل المجهول وهي الجاسوس النائم في رطانة النظام الاجتماعي المترنح .
قبلها... لما شرعنا بالأمس المسير كنا بهيئات تشبه عنونة لسليم بركات (موتى مبتدئون ) ومنذ الآن قد نتناصص كثيرا وننزاح مع العناوين أكثر ونتطرف حتى (موتى أبديون ) لأن ما إن تنتج ذهنية ما تلك الجمل حتى تفترق الحلول وتتكاثر الجمل ذات المغازي الحذرة المؤذنة لتغيرات مشوهة رغم عبورها الخاطف :
( شو بدك عنا)إذا أنزلت تحت المجهر العلامي (السيميائي) ستتراءى عدة تأويلات هلامية تتحرك بثقة الفيروس بضآلته :
1_ أيها الآخر في بلدي ، الذي صنعك المجهولون الميديويون - أولئك الممتهنون صناعة واقع لا يشبهك ولا يعنيك ومفروض عليك - أنت خطر وجودي.
2_ ليست المعركة منذ البداية إلا معركة قدسية انتدبنا أو وعدنا القدر بها وهذه علاماتها ...
3_ كل من يتكلم عن فجر سياسي _والمسألة في قاعها البائس سياسية اقتصادية وصراع قوى _ أصبح خارج الواقع الذي يشرعن الجماعات لا المجتمعات .
4_ أننا كنا ( متواطنين )نمثل دور شعب بإتقان،الآن كل سلاح يعجل تحولك إلى البري ستتقنه يدك وسيرتديه خيالك المخلص لقمع جماعتك .
5_ لا مكان للعقلاء فحسب قانون فيزيائي مغمور: «إذا تحول قومك فلن تنقذك أناستك... ».
6_ زهير بن أبي سلمى والحارث بن عوف وهرم بن سنان وحرب البسوس ورمزية الزير سالم وممدوح عدوان ،لقد اعتليتم عرش الهرطقة طويلا ،لأن في هذا الموحش لا وطن للديات أو لسخافة الإرشاد عن العيش المسالم.
7_ مهدي عامل :وأنت في لجة حربك الأهلية قامرت على المستقبل ،فصراع الانحرافات سيمضي ملوحا بخنادق للإثنية والطائفية والأقلية وحدها..
8_ الموت لن يهمل المقولات التميمات كالأزمة تنبح والحراك الشعبي يسير واللعنات العجولة لن تنتظر الأزمة ذات حكمة السلاحف .
9_ أيها البعيدون العارفون والمتحولقون حول حضرة العبارة وحضرة الوهم ، بقامة رعبكم البعيدة لن تنضب ال - شو ما بدك - من الجميع .
على السوريين بعد تجربة الحراك الشعبي بكل بدعه والتي بمعظمها تحولت إلى ممارسات اجتماعية قيد التجذر أن يعوا أن تلك الممارسات الاجتماعية المؤطرة بالجانب اللغوي ،الجوهري في العملية، هي في حقيقتها كيان وسيط بين البنى الاجتماعية وبين الأحداث الاجتماعية فكما يصفها نورمان فاركولوف في كتابه تحليل الخطاب :» توجد كيانات وسيطة تنظم العلاقة بين البنى والأحداث ،لنسمي هذه الكيانات (الممارسات الاجتماعية )»، هذه الممارسات بحساسية توضعها تتشرب البنى الاجتماعية نحو التفعل لأشكال جديدة منها ولإقصاء أشكال أخرى يلفظها نتاج التداولية .
ويحٌ للواقع إن احتلت مثل هذه العبارات - شو ما بدك عنا- الممارسات الاجتماعية ،لأنها ستفني الاحتمالات العزلاء الأخرى من بنية الحياة الاجتماعية ذات الطابع اللغوي التداولي والإجرائي وستسيطر على الحدث الاجتماعية بوصفها الاحتمال الأقوى من جملة هذه الممارسات الجتماعية ، الردع الردع لمثل هذه التفشيات النصية قبل أن تصبح ( نطق خطابية) والتي يوضحها نورمان فاركولوف في الكتاب عينه :» شبكة من الممارسات الاجتماعية في جانبها اللغوي «.
إنَ ما تجيده مثل هذه العبارات إن نضجت إلى - نطق خطابية - هي المشاركة في بنينة الحياة الاجتماعية –المتغيرة والمختلفة من جهة اللساني- لمَا تسيطر نصوص اختيرت اجتماعيا على الواقع، ليغدو الواقع نصياً مستباحاً، يهيم فيه المعنى كبدوي مرتحل طائعا لمزاجية ما تشيعه اللغة من دمار أو سراب.
لقد آن للأزمة السورية أن تصبح خارج النص خارج الوهم وخارج العبارات وضدها . عندما يتيقن السوريون أن الفتاوى والدسائس والأدب والاتفاقيات والإشاعات والبيانات والنشرات والمبعوثيات هي وهم الأزمة لا الأزمة ،لأن مفردات الأزمة السورية الآن هي دوال فقدت معناها ودلالاتها بعد كثافتها وتراكمها على المستوى الإعلامي :
الخيانة ... الموت ... الكذب ... الثُوَار ... التحرير ... الفلول ... الطوابير ... المؤامرة ... الكونية ... مندس ... الحسم الكهرباء ... الفساد ... الأوهام ... السحق ... البواسل .......
يقول جان بودريارد في كتابه المصطنع والاصطناع:» نحن نعيش في عالم تزداد فيه المعلومات أكثر فأكثر ،بينما يصبح المعنى فيه أقل فأقل « ويقول في موضع آخر عن تسلط الإعلام على القضايا أن « كل الكلمات المحددة مبتلعة في هذا النمط لأنه بلا عمق وفوري وسريع النسيان، إنه انتصارالشكل السطحي ،الحد الأدنى المشترك لكل مدلول ،درجة صفر في المعنى».
إذاً فكثير من حكايات الأزمة يتمشى في النصي الآن ويشتغل فوق الواقع .
يروي معارض سوري أنه شاهد طفلاً في غيهب واطئ لا يعرف الشجرة أو العصافير، لكن الآن قد يغدو المئات من الأطفال دون أن يعرفوا الوجود أبداً .
هذه النصوص تتأثث داخل نص اللاواقع وداخل نص اللاأزمة وداخل اللاحلول وداخل النحيب واللطم إنها سيرورات الإعلام باتجاه الافتراض،و قد تبدأ بإشاعة هزيلة -كشو مابدك عنا - لتتجسد حدثا لايمكن اغتياله.
في الثمانينيات دهش الروائي السوري «سليم بركات» عندما انتصرت الحرب الأهلية اللبنانية على اللغة (النص ) في رحايا الحماقات وفي خواتيم المفاجآت والنهايات، فانبرى لتحرير المتاهة بثقة السرد من إسراف الواقع، وكتب حينها رواية عنونها العدم المسلح بـ ( أرواح هندسية ) - سيحشر لهذه الرواية مستقبلاً في أحدى المقالات القادمة - ،قُدر لهذه الرواية بشبكتها النصية وبترسانة التمويه والشيفرات التأويلية أن تحرج الحرب الأهلية القابعة في قوة الجنون وغرابته، أما اليوم فهذه الأزمة مهما وفت الحماقات حقها فلن تضمن لعبة الكتابة، لأن من سيغامر في مواجهتها ويظن أنه سيمتلك كوناً أرحب يصرخ على كونها سيهزمه الابتذال والتكرار والخطابية والإرشادية، لأن الأزمة بضخامة الإعلام حولها مهددة بالتيه وبفقدان فرادتها وفرادة مستجداتها بعدما أمست داخل اللاواقع، ولن تُفهم أبداً كتاريخ جديد إلا إذا قفزت من اللاواقع إلى الحلول والتصحيح وإلى الوعي الشعبي الامتشاقي ...،حتى تبرهن أنها ليست نسخة ساذجة عن حرب أهلية سابقة أو اعتراك سياسي سالف انطلق نحو التشتت .