سناء عون سناء عون

سورية نحن.. ونحن فقط..

اللعبة اليوم تجاوزت ما يمكن السكوت عنه، فالعزف على الوتر الطائفي الذي باشر على الفور بسفك الدماء، لا مرجعية شعبية له، ولن يحدث شرخاً لأبناء الحي الواحد. فهم الجميع اللعبة سريعاً، بل لنقل إنهم أدركوا السيناريو قبل كتابته.

 

استنكر الناس هذا اللحن الناشز، وقرروا تحطيم آلته البغيضة، بكل ما لديهم من حب.

 

 

ثقافة الحب تلك، التي حاولت آليات الفساد المشبوهة محوها، نمت رغماً عن أنوفهم، في مكان قصي، بعيد عن نظراتهم، في العشوائيات، في المقاهي الرخيصة، في أوراق نقدية قليلة القيمة تُتبادل بين الناس، في دفتر صاحب البقالية. هكذا نشأت شوارع الفقر، وبيوتها التي امتدت في كل البلاد.

بني المكان خلسة عن عيون العسس وتابعيهم الإداريين، الذين لو سمعوا به لهدموه، بحجة مخالفته للشروط القانونية. الفقر الذي جمعهم هو واحد، وهذا أيضاً ما غاب عن الإدارات المحلية هدمه وتفريقه.. لا عرق للفقر ولا طائفة ولا دين، ولذلك كل الشعب هو واحد، واحد فقط.. فكيف يفكرون بتقسيمه إلى أجزاء؟

ذلك الحي الصغير الذي هجرته منذ وقت قصير، والذي يمتد على كامل التراب السوري، عدت إليه مجدداً. أدخل السوبر ماركت لأجد صاحبه يباغتني بسؤال لا ينتظر إجابته.. «أنت بخير؟؟ الحمد الله.. والله خفت عليك».

ابن البلد الدمشقي الذي نشأت معه في حينا القديم، وننتسب حسب دائرة النفوس إلى محافظتين مختلفتين، تبرق عيونه عندما يراني بخير.. أهذا هو من يخيفنا!!؟؟ من يقتل من؟؟؟

تأكدت عندما تجولت قليلاً بذلك الحي أن من سيقف بوجههم:

أم كميل.. تلك الجارة المهووسة بالبيت والأولاد، تجلس منذ الصباح على باب بيتها، بانتظار عودة صغارها من المدرسة.. تضحك عندما تراني أركض باتجاهها:

«وين باقي الولاد؟؟». أرد عليها ضاحكة: «سبقتهم».

أم كميل لا تنسى في عيد الفصح توزيع البيض على الجميع، أما مأكولات عيد البربارة فهي لكل الحي.

أم كميل أهدتني سلسلة ذهبية لصورة العذراء قائلة: «هي مشان العدرا تحميكي»، من يومها والعذراء لا تفارق عنقي، كرمى لأم كميل فقط..

أبو مروان.. الجار الذي لم ينجب أطفالاً، كنت على الدوام ابنته الصغيرة. حكاياته التي كانت مخبأة لأبنائه، تسير في كل الحي، واقفة كحاجز منيع ضد أية تعبئة غير مشروعة.. وسواره الذي ألبسني إياه هو ما بقي من حلي والدته، نجمة ملونة بخمسة ألوان. قال: «احمليلها حتى يحميك الله.. وأيضاً كرمى له حملت سواره على الدوام»..

القابلة أم جاسم التي ولّدت كل أبناء الحي، نفخت في أذانهم، تلت آياتها في وجوههم. لن تسمح بدم يسيل في ذلك الحي. هي من علمنا اللعب النظيف عندما نتعارك بعنف، من يومها ولعبة المعارك الدائرة بيننا، تنتهي ويعود الجميع إلى البيت سالمين.

هي من يدور «بطاسة الرعبة» عندما يرتجف أحدنا خوفاً، هي من تقوم بكل الرقى، تذيب الرصاص لتفك الحسد، ترش الرز لجميع الأعراس. أظنها اليوم تحضر طاستها لكل أبناء سورية.

أم خالد.. الخجولة، صوتها يكاد لا يسمع. لا يهمها استبدال زجاج النوافذ كلما كسره أطفال الحي الشياطين. صوتها يعلو فقط عندما لا نرد عليها، وهي تنادي علينا لنوصل أكياس البندورة والفليفلة وباقي الخضار، إلى منازلنا. خضارها التي تعتز بجودتها ومذاقها من حوران.

أبو نضال الذي يوزع دعاءه للجميع، كما يوزع التفاح الرنكوسي، ولا ينسى أبداً تخزين الكثير منه لأيام الضيق. سيقتل ولده لو أزعج بنت الجيران.

وروز الأرملة الوحيدة.. التي تكفلت بغسيل ثياب كل شباب الحي عندما عادوا ملطخين بالطين من سباحة ليلية وهم يبحثون عن ابن الحي الضائع.. تقضي كثيراً من وقتها وهي تضفر تعويذتها الخضراء لفريق الحي لكرة القدم، حتى يعودوا منتصرين، وقبل النصر تضعها ليعودوا سالمين.. روز أيضاً ربطت يدي بقماشتها المباركة ليحميني الله أيضاً.. حملت خيطها الرفيع وكذلك فعل الشباب.. كلنا وضعناه أيضاً كرمى لروز..

لم تكن حارتنا الصغيرة التي جمعت فقراء من كل المدن، إلا نموذجاً سورياً صغيراً مثل عالمنا الصغير.

اليوم، وأنا أنظر إلى كنوزي من ذلك الحي القديم أراني أشبهك سورية.. أبدو كفسيفساء دمشقية.

حسب القانون الطبيعي، سورية اليوم كفريق كرة القدم في ذلك الحي القديم، حارسه دمشقي، ودفاعه: يتنوع بين السهل، والجبل، والساحل، والجزيرة، هجومه: جنوبي، شمالي، غربي، شرقي، والجميع بأيديهم تميمة، أم كميل، وأبو مروان، وروز، وأبو نضال، وأم جاسم، وأم خالد....

هي ذي سورية.. سورية نحن.. ونحن فقط..

■■