إيفان فرانكو: «متى تشتعل الشرارة في صدور الناس»

إيفان فرانكو: «متى تشتعل الشرارة في صدور الناس»

«عند المساء وبعد حلول الليل، كنا قد بدلنا ملابسنا وأوينا كل إلى سريره، سمعنا فجأة وقع خطوات السجان وطقطقة المفاتيح في القفل، وأخيراً فتح الباب وترك شريطاً من الضوء الأصفر من مصباحه في الزنزانة، وعبر هذا الضوء شاهدنا رجلاً نحيفاً دفعه الحارس مباشرة إلى الزنزانة، لأنه من الواضح لم يكن يستطيع السيطرة على بنفسه.

«هذه هي بطانيتك وأشيائك القذرة»، صاح به وهو يرمي الأشياء إلى رأس القادم الجديد، وغالباً ما يسقطه على الأرض وهو يقول: « استلقي ونم وفي غداً صباحاً ستحصل على الأواني».

مع هذه الكلمات أغلق السجان الباب وذهب بعيداً، أصبحت الزنزانة مظلمة مثل السرداب وهادئة مثل القبر.

 

من قصة «إلى النور» لإيفان فرانكو.

ولد إيفان فرانكو أحد أهم الشخصيات في الأدب الأوكراني«1856 – 1916» في عائلة فلاح حداد في منطقة دراغوبيتشي. تلقى تحصيله العالي في جامعة لفوف وحصل عام 1893 على درجة الدكتوراه في الفلسفة من فيينا، وشارك منذ سنوات الدراسة في الحركة الثورية وتعرض بسبب ذلك للسجن عدة مرات ووضع تحت رقابة البوليس الدائمة، كان واحداً من أولئك الذين وضعوا البرنامج الاشتراكي الذي طرح مهمة توحيد القوميات. 

نشر أشعاره الأولى في المجلة الطلابية أثناء دراسته، وساهم بنشاط في حركة الشبيبة الديمقراطية، وبسبب الوضع الاقتصادي السيء، اضطر للعودة إلى القرية ولكن رغم اشتغاله بالأعمال الزراعية، لم يهجر قط نشاطه الأدبي وكان يجد طريقه إلى المجلات الأدبية المختلفة.

إلى جانب كونه أحد كلاسيكي الأدب الأوكراني، كان فرانكو عالماً واقتصادياً وفيلسوفاً بارزاً تأثر بالفكر الماركسي كثيراً، وأخذ يدرس، منذ سبعينات القرن التاسع عشر، مؤلفات ماركس وأنجلس وترجم إلى الأوكرانية بعض فصول رأس المال لماركس، و«أنتي دوهرنغ» لأنجلس وكتب مقالات كثيرة دافع فيها عن الأفكار الماركسية.

كان محرراً ورئيس تحرير في كثير من المجلات السياسية والفكرية والأدبية الصادرة بالأوكرانية والبولونية والروسية. أسهم في تطور الأدب الأوكراني في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وكان رائداً في فتح آفاق جديدة للأدب الأوكراني بما خلّفه من إبداعٍ أدبي ونقدي متابعاً في ذلك خطا شيفتشينكو ومناضلاً ضد الشكلانية «Formalism» و«الحداثوية».

في مجموعته الشعرية «من القمم والوهاد» الصادرة عام 1887، طغى الشعر الغنائي الوطني – السياسي، الذي تجاوز فرانكو فيه كثيراً من قواعد الشعر وأشكاله السائدة ليبدع جديداً يُغني الشعر الأوكراني في موضوعاته وأجناسه وأساليبه. لذا تلقت هذه المجموعة نقداً عدائياً حاداً في الأوساط المحافظة وقامت الرقابة القيصرية الروسية بمنعها ومصادرتها.

 صدرت له مجموعات أخرى، صور فيها النضال السياسي ضد الرجعية والمعاناة الشخصية التي عاشها معها في مواجهة غير متكافئة، فكانت «الأوراق الذابلة» و«زمردي»، و«قصائد طويلة» و«من أيام الشَجن». وقد وصف فرانكو مجموعته «الأوراق الذابلة» بأنها «دراما غنائية»، إذ تمتاز قصائدها بالتكثيف والغنائية المرهفة، وبغنًى في المحتوى وبتقلبٍ في المزاج وبلعبٍ مليء بالانفعال، يظهر عبر تغير الوزن والإيقاع وبنية الشطر الشعري. وتحتوي المجموعة على قصائد تركز على إبراز الموضوع وأخرى تحتفي بالوصف، وقصائد تقوم على التأمل وأخرى على التركيب المعقد. أما مجموعته «زمردي» فيسير فرانكو فيها على خطا شاعر الهجاء الغنائي الوطني شيفتشينكو، لكنه يكتسب عنده بعداً فلسفياً تأملياً، يتناول فيه الصداقة والإيمان والمواطنة والواجب ومغزى الوجود الإنساني، وتظهر فيه الحكم الشعبية والحكايات والأساطير وتتعمق السمات الملحمية.

صدرت له في عام 1906 مجموعة «ثلاثي زيمبر»، تناولت موضوعاتها  نقد الشوفينية القومية والانحطاط الفني، ودافعت عن مبادئ الفن الواقعي المدعو إلى خدمة الشعب. أما قصصه الأكثر شعبية، فهي «الأفعوان»، و«الطاعون» التي تحكي عن الانتفاضة الوطنية والاجتماعية للفلاحين الأوكرانيين ضد الاحتلال البولوني عام 1596، و«بوريسلاف يضحك»،  التي يصور فيها الاستغلال والنضالات الإضرابية، وله مسرحية عن الحياة الفلاحية اسمها «السعادة المسروقة» عرضت مئات المرات في العالم. 

خلّف فرانكو أكثر من 400 قصيدة طويلة تحوي لوحات ملحمية من الحياة المعيشة الشعبية، وأخرى تغوص في الأخلاق والسياسة والفلسفة عبر لقاءات بين البطل والرعايا، بين القائد والجماهير الشعبية، بين الفردي والمجتمعي ونشرت أعماله الكاملة في عشرين مجلد، وبلغت زهاء خمسة آلاف قصيدة وقصة قصيرة أو طويلة ومسرحية ومقالة علمية وكان أحد المدافعين عن الواقعية .

 

شغل نثر إيفان فرانكو مكانة خاصة في تطور الأدب الأوكراني قبل ثورة أكتوبر 1917 وانهيار الحكم القيصري، إذ امتاز بغناه، فكان من أوائل الذين كتبوا المقالة الأدبية الاجتماعية، واللوحات الحياتية، والقصة القصيرة الساخرة، والقصة الطويلة النفسية. وتشغل القصة الطفلية مكانة خاصة في إبداعه النثري. ويتناول نثر فرانكو تناقضات المجتمع البرجوازي، وشخصيات قصصه منتقاة من الشرائح الاجتماعية المختلفة ومن كل الطبقات، ومن قوميات وأديان عدة، ومن مهن متباينة، يدور بينهم صراع حاد، وفوقهم جميعاً يقف الحكم القيصري الذي يتحلَّق حوله رأسماليون وإقطاعيون ونبلاء وأعيان.

منحته جامعة خاركوف في أوكرانيا عـام 1906 دكتوراه شرف في الأدب الـروسي، ورشحه الأكاديميون إلى عضوية أكاديمية بطرسبورغ، إلا أن السلطات القيصرية حالت دون انتخابه. لكن هذه الأكاديمية منحته جائزتها التقديرية بعد وفاته عام 1916.

جاء في قصيدته نداء إلى المواطنين والكتّاب عام 1881:

«أيها المواطنون، يا كتّاب أوكرايينا

لقد فكرت بولادة أخوية البشر الجديدة

وتساءلت: متى ستحل على هذه الأرض».

كتب فرانكو قصة «أوليسكا دوفبوش يسرق حصة» عن الفتى أوليسكا، «روبن هود أوكرانيا» الذي كان يشن الغزوات والغارات على الأغنياء والنبلاء، ويوزع الغذاء على الفقراء وذاع صيته في كل أوكرانيا عام 1730 وألفت عنه الأشعار والأغاني الشعبية والأساطير.

عرف عن نفسه وحياته من خلال قصيدة قصيدته «ولادة الأمر الجديد» وقال فيها:

«لقد ولدت فلاحاً وأنا ابن الشعب العامل». 

وكتب في قصيدة « يا أبتاه» يحث الشعب الأوكراني على الثورة قائلاً:

«متى تشتعل الشرارة في صدور الناس».