«هديلي راسو لأعرف من وين بدي بوسو»!!

«هديلي راسو لأعرف من وين بدي بوسو»!!

تحمل الأمثال الشعبية من القوة والسحر ما يجعلها حاضرة في أي حديث حياتي نخوضه بغض النظر عن موضوع ذلك الحديث..

 

ليس غريباً البتة، وفي خضم نقاش سياسي حامٍ، أن يدلل مثلاً أحد المتحدثين على صحة ما يقوله حول سعي كل دولة وراء مصالحها الخاصة بالقول: «من بعد حشيشي عمرو ما ينبت حشيش». وفي من يستعجل الخلوص إلى نتائج نقول: «بيخطف الكباية من راس الماعون» وفي من يغيب عن ملاحقة شأن يخصه نقول: «إلي ما بيحضر ولادة عنزتو بتجبلو جرو».. وإلخ. 

يكتسب المثل قوته من عوامل عدة، فهو غالباً ما يحمل جرساً موسيقياً ضمنياً أو قافية واضحة تجعله سهل الحفظ والنقل. كذلك فإنّه غالباً ما يتكون من عبارة واحدة قصيرة، وفوق ذلك فهي غالباً عبارة ساخرة، والسخرية هذه مفتاح أساسي لا للمثل الشعبي وحده، بل لمعظم الفنون الكلامية الشعبية، فالسخرية سلاح ماضٍ يحمل الفكرة بكل قسوتها على بساط من الضحك، وهذا الأخير سلاح عامة الناس في مواجهة قسوة حياتهم المتوارثة جيلاً بعد جيل، وعبر قرون طويلة. إلى ذلك فإنّ المثل إذ يستند إلى حادثة حقيقية أو متخيلة فإنّه سرعان ما يتحرر منها ليحمل «عبرتها» ويمضي بها مسقطاً إياها على حوادث جديدة دائماً، وبذلك فهو يتمتع بهيبة وسحر ماض يعيد تأكيد صحته في حوادث الحاضر. وفي قبول عموم الناس للأمثال وطبيعتها «السحرية والماضوية» هذه واستخدامهم المستمر لها شأن ربما يكون نفسياً واجتماعياً، فربما تكمن المسألة في عمقها في أنّ استمرار تدهور أحوال الناس المعيشية والاجتماعية في مجتمعنا السوري خلال نصف القرن الماضي دفعهم دائماً للحنين إلى ماضٍ يحمل شيئاً من الاستقرار والوضوح، رغم كونه واقعاً قاسياً هو الآخر، لكن الخوف المستمر من المستقبل وخطورة المجهول التي تلوح أمام الناس وتؤكدها لهم مختلف الجهات التي تعادي مصالحهم ونهوضهم لتغيير واقعهم، كل ذلك يجعل الماضي أكثر أمناً بالنسبة للناس، الماضي بأمثاله وتقاليده وأفكاره.. وإلخ

مقابل هذه النزعة، يظهر تمردان: الأول يحمل طابع رد الفعل، وتغذيه أفكار «الحداثة» وما بعدها والتغريب وغيرها ومنظرو هذه الأفكار ومن وراءهم، تنتهي هذه النزعة إلى محاولة نسف التراث كاملاً بإيجابياته وسلبياته، ليس نسفه وحسب، بل ومحاولة التبرؤ منه والتعالي عليه وعلى «تخلفه»، وهي لا شك نزعة هدامة من شأنها أن تفت في عضد واحدة من أهم مركبات الهوية الوطنية.

التمرد الثاني هو تمرد جذري واعٍ، يرفض التسليم للمثل بوصفه «حكمة الأولين التي لا غبار عليها» وإنما يعيد النظر في كل مثل وفي كل حكمة ليتبين دوافعها، وأهم من ذلك، ليتبين توظيفها المعاصر، فينبذ منها ما يعادي تقدم الإنسان المظلوم وتطوره وسعيه نحو العدالة ونحو الخير، ويحتفي بما يناصر الإنسان منها.

«مد لحافك على قد إجريك» مثلاً، ينفع لاستخدامات أبعد بكثير مما يظهر بداية، فهذا المثل يدعو من جهة إلى الاعتدال في الصرف المالي وفي تقدير الإنسان لنفسه ضمن مجتمعه وفقاً لإمكاناته الحقيقية، ولكنه من جهة أخرى يدعو إلى الركون إلى الواقع والتكيف معه.. هذا كلّه معروف وواضح: وجه إيجابي ووجه سلبي للمثل نفسه.. ولكن له وجهاً آخر أكثر عمقاً.. «مد لحافك على قد إجريك» قد يعني أن عليك أن تستهلك بقدر ما تحتاج! وبما أنّ رجليك مهما طالتا فلن تطولا كثيراً فإنّ استهلاكك الطبيعي سيبقى محدوداً و«طبيعياً» في نهاية المطاف. وبالتالي يمكن لمثل كهذا أن يحمل شحنة مضادة للنزعة الاستهلاكية التي تسيطر ضمن المجتمع الرأسمالي فتهلك الطبيعة والبشر معاً..

قد يبدو الكلام مبالغة في تقويل المثل أكثر مما يحتويه حقاً، فلتكن كذلك.. إنّ إعادة قراءة التراث لا تعني قراءة سياق إنتاجه الأول فقط، بل وتعني أيضاً قراءته في سياق إعادة إنتاجه الجديد، بالأحوال كلها، وبما أنّ تراثنا هو تراث مركب، تراث سلطة وتراث شعب، وهو لذلك حمّال أوجه عدة، فإنّ علينا أنّ نثبت له رأسه على سراط مصلحة الشعب ومصلحة عامة الناس.. وحينها فقط سيكون بإمكاننا أن «نبوسه»!