بين قوسين: ثلّاجة القدر
كان الفيلسوف الفرنسي الراحل ميشيل فوكو قد أطلق على الحداثة، اسم «السلطة التأديبية»، فهو وجد في انتصارها المطلق والعنيد للعقل، هزيمة مؤكدة للجنون.
الحداثة بالنسبة إليه هي عديمة المشاعر، وتقنية، وكئيبة، أما الثمن الذي ندفعه لهذا الانتصار المدوّي فهو ببساطة إنسانيتنا.
ويقول: «نحن مجردون من الروح والجنون، ورغباتنا مسلوبة» بعد إسكان كل ما هو مجيد ومشرق وغامض وبهي، الحداثيون وجدوا أنفسهم سجناء في «قفص حديدي» يعانون من «تحجّر آلي» لا يستجيبون لنداء الكينونة.
كل هذا حدث ويحدث، كنتيجة للإخلاص المميت للعقل والمعرفة والحقيقة، ولكن ما هو المطلوب في المقابل؟
«الجنون» يجيب فوكو باطمئنان، فالجنون إحدى «المعارف المضطهدة» التي ينبغي تحريرها.
مرة، علّق ممدوح عدوان، إننا أمة غير مبدعة، لأننا أقصينا الجنون عن حياتنا.
كانت المناسبة آنذاك الضجة التي أثارتها حادثة انتحار التشكيلي المتفرّد لؤي كيالي.
لم يستوعب المشهد الثقافي أن يتجوّل في تخومه شخص مجنون، فأراد أن يريح دماغه، بأن أرسل كيالي إلى المصحّة، غير عابئ بعبقريته التي لم يتجاوزها الآخرون.
الجنون هنا، هو محاولة تكسير الأطر الثابتة والمستقرة للنص، وعبور صلابة العقلانية لاكتشاف الجوانب الخفية لمنطقة اللاوعي.
ويرى ميشيل فوكو بأن عصر النهضة، أسبغ على الجنون صفته الصحيحة باعتباره تجلياً لذلك الجزء من النفس البشرية في لوحات خالدة، أبرزها أعمال ماتيس، ويجد أن العصر الكلاسيكي كان المونولوج الأساسي للعقل حول الجنون.
هذا الافتنان بالجنون، افتنان ما بعد الحداثة، بإطلاق جموح النص، وإسرافها بتمجيد كل ما هو مخفي وغامض، ربما كان أحد مصادر سحرها.
ولكن أين نقف نحن كعرب، بعد أن أودعنا العقل في «ثلاجة القدر» واكتفينا بمهمة «النقل». بالطبع علينا ألا نهمل كمية الفتاوى التي باتت تُباع على البسطة. فتاوى بإطاحة الآخر. وفتاوى بإقصاء الاختلاف، وإبادة الفصول إلى « ربيع؟» يتفتح بالدم وحسب.
لم نقترب إذاً، من لحظة الجنون الإبداعية، أو إننا حاكمنا الجنون بعنف، ففقدنا اللحظتين، لحظة الحداثة، ولحظة ما بعد الحداثة، وغرقنا في بئر مظلم...
أي نص يفتقد إلى التحريض، ولا يشجع على القفز في بحيرة التماسيح، هو نص متثائب ويعيش غيبوبة مؤكدة.