«ليلى والمجنون» عند الشعوب
قلة من قرأ القصص أو الملاحم الشعبية القديمة ضمن سياقها التاريخي أو بحثوا فيها عن الأفكار الفلسفية المبكرة أو تعاملوا معها كتراث مليء بالأفكار المتناقضة. ومنها ملحمة مجنون وليلى الموجودة عند شعوب الشرق منذ آلاف السنين تلك الملحمة المليئة بقصص تصور الحب والتمايز الطبقي وتوثق لحياة شعوب الشرق في تلك العصور القديمة.
في عام 1935 نشر كتاب في لينينغراد/بطرسبورغ يحمل عنوان «مجنون» وكانت ترجمة لملحمة مجنون ليلى الفارسية التي كتبها الشاعر «نظامي» (1141 – 1203)م الذي يشكل مع الفردوسي العصر الذهبي للأدب الفارسي الكلاسيكي.
يؤكد الكتاب في مقدمته، أن الباحثين الآثاريين عثروا على رقم طينية بابلية تحمل سطورها قصة تتشابه تماماً مع قصة قيس ابن الملوح إلى حد التطابق، حتى أن الأسماء الأساسية في القصة هي تقريباً نفسها. مثل أسماء قيس وليلاك وأبن سلاميس. لكن منحى القصة البابلية ينحى في نهايتها منحىً مختلفاً، حيث يتزوج قيس ليلى وبعد مدة يسأمها ويتزوج امرأة أخرى فتموت هي كمداً. وهذا المنحى الواقعي في أدب بلاد الرافدين يظهر واضحاً في ملحمة جلجامش، إذ يعود جلجامش بعد رحلاته المضنية ويطلق الى الأبد فكرة البحث عن الخلود ليعمر الأرض ويزرعها.
لقاء الربيع والخريف
تشير شروحات مارغريتا رودينكو إلى أن ملحمة ليلى والمجنون للشاعر الكردي خاريس بتليسي تشابه الملحمة الفارسية التي كتبها «مكتبي»، ويؤكد مكتبي نفسه أن ملحمته «المجنون وليلى» قد اقتبسها من الملحمة الأصلية التي كتبها «الخسروفي»، والذي بدوره اقتبسها من الأدب العربي في القرن الخامس الميلادي، وكان قد سمعها من ألسنة أطفال العرب. وهناك ملحمة ليلى والمجنون آذربيجانية لـ«نظامي الكنجوي».
تؤكد بعض المصادر أنه حتى نهاية القرن الثامن عشر، هاجر الكثير من الأكراد الرحل إلى مناطق يسكنها العرب، وسمعوا هذه الملحمة منهم ونشروها فيما بينهم باللغة الكردية وبقيت بينهم حتى اليوم وجمعت هذه القصص في ملحمة «خاريس بتليسي».
كما وجدت نصوص للملحمة عند شعراء آخرين مثل سليم سليمان من الأناضول وقره خان شرف خان من آشخاباد في خراسان، وهذه النصوص الثلاث كتبت بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، وهناك تطابق بين النصوص الثلاث للملحمة في بعض المقاطع واختلاف في مقاطع أخرى.
تقول مارغريتا رودينكو أن اللغة التراثية التي كتب بها سليم سليمان ملحمة المجنون وليلى، تختلف عن اللغة التي كتب بها خاريس بتليسي ملحمته الشعرية، ويحكي فيها قصة المجنون، وكذلك تختلف بعض الوقائع، فعند «بتليسي» كان المجنون ابناً لأب وأم فقيرين، وأحب ليلى ابنة العائلة الثرية، وأراد مجنون الزواج منها، فأرسل والدته لطلبها، ولكن والدها ووالدتها لم يوافقوا، وترجع أم مجنون خائبة نادمة إلى منزلها وتبدأ بذمها كي يترك ابنها حب الفتاة.
يذهب المجنون إلى عين سندجان «أو نبع ماسابول» المكان الذي تجلب منه الفتيات الماء، ويلتقي بليلى ويتأكد من حبها له، ويبقيان معاً إلى أن يغافلهم الوقت هناك حين غروب الشمس، ورغم أن ليلى كانت تعرف أنهم ينتظرونها في البيت، إلا أنها تلبي طلب المجنون في أن تبقى لوهلة قصيرة.
قامت ليلى بتعليق خرزات في رقبة المجنون، وعادت إلى منزلها، لتكتشف أن أهلها قد غادروا بيتهم إلى مكان آخر، فتبدأ بالبحث عنهم في المراعي بسرعة إلى أن تصل إلى المنطقة التي نزل فيها أهلها بعد مضي الكثير من الوقت.
ولا تتمكن ليلى من القدوم إلى النبع كما وعدت حبيبها في أحد الأيام، إذ ألمت بها ضائقة فلم تستطع لقاء مجنون، فسأل عنها المسافرين والرواة، ولم يستطع أحد أن يقول له شيئاً، إلى أن جاء طائر من نبع سندجان في إحدى المرات، فتسأله ليلى إذا ما كان المجنون مازال عند النبع، فيقول لها أن العصافير بنت أعشاشها في شعر رأسه، والسناجب بنت بيوتاً حوله، ونبت قصب القاميش حوله. تقوم ليلى دون أن يراها أحد، وتتجه إلى المجنون ويحتضنان بعضهما قرب النبع من كثرة الشوق الذي نال منهما، وكانت ليلى خوفاً من إخوتها تدعو ربها كي يحولها إلى نجمة وتطير مع المجنون إلى السماوات، ويتحولان إلى نجمتين تطيران في السموات ولا يلتقيان إلا في الربيع والخريف.
الملحمة العربية
في القرن الخامس
ورغم كثرة ملاحم الحب في آداب الشعوب وقصصها العديدة، لكن لم تنتشر واحدة منها مثلما انتشرت قصة مجنون ليلى عند العرب. أما المجنون فهو الشاعر العاشق قيس بن الملوح والذي أودى به العشق والحرمان إلى الجنون وإلى أن يسيح في البراري والقفار باكياً ومتغزلاً بليلى، وأما ليلى فهي ليلى العامرية ابنة عمه ولأنه ذكرها في شعره فقد حرم زواجه منها على عادة العرب. وقد وصفها أروع وصف عندما جاءه نبأ رحيل محبوبته فشبه قلبه بطائر وقع في شرك صياد فهو يحاول الطيران لكن جناحه عالق في الشباك:
كأن القلب ليلة قيل يغدى
بليلى العامرية أو يراح
قطاة غرها شبك فباتت
تعالجه وقد علق الجناح
ترك لنا المجنون قصائد ومقطوعات شعرية هي من أعذب وأرق الشعر العربي، منها هذين البيتين اللذين يحملان صورة عن حبه والحال الذي آل إليه:
تَذَكَّرتُ لَيلى وَالسِنينَ الخَوالِيا
وَأَيّامَ لا نَخشى عَلى اللَهوِ ناهِيا
وَيَومٍ كَظِلِّ الرُمحِ قَصَّرتُ ظِلَّهُ
بِلَيلى فَلَهّاني وَما كُنتُ لاهِيا
أريد أن أقول، إن شعوب المنطقة كما تنتمي إلى رقعة جغرافية واحدة، تنتمي إلى فضاء ثقافي واحد ، فثقافات شعوب الشرق كانت على الدوام ثقافات متلاقحة، وتنطوي على الوحدة في التنوع، و تتضمن التكامل والخصوصية معاً.